حنـا مينـه.. حيّ في وجدان محبّيـه

أيها البحار الذي رست سفينته!

د.غسان غنيم

 

 

أيها البحار!

أشعلتَ (مصابيحك الزرق) فأثرت (العاصفة التي لم تكسر شراعك) الذي شقّ سبيله (الطروسي) عبر العواصف التي خلعت (النافذة ليدخل منها الثلج)، بينما كان (المرسنلي) يلقي (بالباطر) إلى شاطئ السكينة معك، وأنت تتلقف (بقايا صورك) التي صبغت الحاضر بمآسي الماضي، ولتنضح من الذكريات عن ذلك العمر الذي مرّ في (المستنقع).

ولكنك علمت أن الحياة أقوى، وأن لابد من أن تشرق الشمس ولو في يوم غائم، وأن الغيم زائل.

وها نحن ذا نسترجع في (المرصد) شمسنا المشرقة بعد خسوف، ومعك.. وقد ارتفعت رؤوسنا نحو الشمس مع (النقيب م والمقدم ح والملازم ن)..

لكن حياة دمشق لم تُنسكَ البحر وحكاياته، و(حكاية البحار) العتيق و(الدقل) والمرساة و(المرفأ البعيد)، وحكاية ذلك الرجل الشجاع، الذي عانى صراعات المرفأ، وخرج بانتصار نفسي معنوي.. وخسارة جسدية لم تكسره.. كشيح همنغواي، وفرح بنضاله من أجل الحق والحب والحرية.

وكرّت السبحة مستغرقاً في الذكريات لتنضح نبعها.. ولكن نبع الذكريات جموم.

إلا أنك لم تنسَ الواقع، وفي منفاك، ذقت طعم الربيع، وجرّبت الخريف، وشدّتك (الأبنوسة اليبضاء) لتحكي تحتها قصصاً عن عذابات البسطاء.. وآمالهم وأفراحهم البسيطة لتعزف بعدها نهائياً عن قص الحكايات القصيرة من دون أن تنسى (هواجسك) التي مزجت فيها بين تجارب الحياة وتجارب الرواية والحكي.

ولأنك كنت ترى أن الكلمات مواقف.. رأيت في (كرماني) شاعر تيمور لنك شاعراً يمثل كل صاحب كلمة أصيل، لأنه خاطب ملك الملوك- آنذاك، رجل الهول والشر (تيمورلنك) الذي سأل شاعره: (بكم تشتريني يا كرماني لو عرضت في سوق البيع) فأجاب كرماني ب(25) ديناراً، فقال تيمورلنك: ولكن حزامي يساوي هذه القيمة، فأجابه كرماني: نعم، إنما كنت أفكر بحزامك وحده لأنك أن لا تساوي فلساً واحداً (1).

وقلت: لا ندري ماذا فعل تيمورلنك بكرماني، إلا أن كرماني قال كلمته.. واستشهدت بكلام قرينك السوفييتي الرائع، الذي تشبه حياته حياتك أنت، إنه (مكسيم غوركي) الذي يقول: (إن الحق في شرف الكلمة، هو الشعار الذي يرفع على سارية عالية، مغروزة في زنار الذين أعطوا أن يقولوها، ثم يتقدمون.. ولا يهابون) (2)

وأنت.. لم تكن كلماتك إلا سلوكاً، ومواقف عشتها وعاشتك، تناصر الفقراء دائماً.. لأنك كنت منهم، وعرفت عذابات حياتهم، فتوحدت حياتك بين الكلمة والفعل.

رأيت في الفنان، وإن امتلك مفهوماً علمياً، أنه يظل على مبعدة إلى الأمام في تخيله صيرورة الأشياء، يحلم.. وهذا زاده، يسبق الحاضر في استشراف الآتي (3)

هذا واقع من تقبض على الشمس.

وكاحتفائك بشاعرك العظيم (ناظم حكمت) الذي كنت تقول معه: (إن لم أحترق أنا وتحترق أنت ونحترق نحن، فمن ذا الذي ينير هذه الظلمات؟!

كذلك كان احتفاؤك بالشاعر الفرنسي (بول إيلوار) لأنه بشّر بالحرية، وأنت من سجد لجلالها، وكرسها أيقونة حب جديرة بالعبادة: (لنؤدِّ الاحترام.. لكل الذين بشّروا بكلمة الحق وقاتلوا في سبيلها) (4).

ولهذا كنت واقعياً.. معجوناً باشتراكية تتسلل في ثنايا فنّك موقفاً فلسفياً تتضمنه الحياة، من دون أن تفرضه على فنك وجمالياتك، بل تقدمه لتقدم وعياً صحياً، ينير دروب الحزانى التائقين إليه.

وما كانت الكتابة لديك فعلاً لاواعياً تنطلق من عقل مضطرب مأزوم.. إنها فعل إرادي لا يعتمد الوحي والعفوية، بل هي فعل نضال على جبهة الفكر الذي يثير الوعي، ويدعو إلى التغيير، وكان زادك الأكبر.. التجربة العريضة، والقدرة المعمارية، وإيقاع التشويق، ودقة الملاحظة. ومباشرة الحياة في مظانها لتعطيك حظوظها وألوانها، فتمزج هذا كله برؤيتك الخاصة إلى الكون والحياة والإنسان، يشغلك همّ التجاوز والتغيير في وقع اجتماعي خبرته وعرفت أزماته ومشكلاته.. ومواضع قصوره وفجواته. وصراعاته، ما ظهر.. وما خفي، واخترت أن تحكي حكايات أناسه الأقوياء، البسطاء التعساء.. الذين عركوا الحياة، وعركتهم ليصيروا أبطالها.. وأبطالك.

أنت الذي رأى.. وعشت بذاكرتك لتهب من خلالها الوعي لمحبّيك جميعهم.

وبقيت تقول مع شاعرك المحبوب (ناظم حكمت) أن لابد أن ننام الآن لنستيقظ بعد مئة عام يا حبيبتي!

لا..

عصري لا يخيفني، ولست هارباً

أنا لم أندم يوماً لكوني أتيت إلى هذا العالم باكراً

إنني من القرن العشرين

وأنا فخور بذلك

حسبي،

أن أكون مع القرن العشرين

ومع الرجال الذين أنا معهم

وأنا أقاتل في سبيل عالم جديد(5)

ها قد رست السفينة أيها البحار العتيد.. ولكن كلماتك ستبحر دائماً، ولن تعرف الرسو أبداً، لأنها كلمات حنّا مينه!

 

 

،1 ،2 ،3 ،4 5: مينه_ حنا: قضايا أدبية وفكرية، الهيئة العامة السورية للكتاب_ ص،8 ،11 37.

العدد 1107 - 22/5/2024