أمن سيناء.. والتواصل مع إيران

تتسارع الأحداث بوتيرة أسرع مما كنا نظن، مما يجعل بعض القرارات مفاجئة للكثيرين.. وسأركز اليوم على حدثين هما من أهم تحديات الأمن القومي المصري..

الأول يتعلق بجرأة القرار المصري بإدخال بعض الأسلحة الثقيلة إلى أرض سيناء.. والثاني خاص بسياسة خارجية جديدة تقوم على محاولات جادة لاستعادة الدور المصري الإقليمي المفقود منذ أن ربطت مصر نفسها بالعجلة الأمريكية.. وما أدراك ما العجلة الأمريكية التي تقودها الصهيونية العالمية!

لقد جاءت اتفاقية السلام بشروط مجحفة في حق الدولة المصرية، جعلت من أراضي سيناء، البوابة الشرقية للأمن القومي المصري، ساحة مفتوحة منزوعة السلاح غير قادرة على صد أي عدوان أو اجتياح محتمل مهما كانت بسالة الجندي المصري وقدرته على بذل الدم في سبيل شرف الأرض.. هذا التفريط في حق سيناء كان مقصوداً به أن تبقى سيناء بمساحاتها المترامية وجغرافيتها الصعبة شوكة في حلق الجسم المصري، فلا هو قادر على ابتلاعها ودمجها في منظومته الاقتصادية والأمنية، ولا هو بقادر على لفظها، وهي القطعة الغالية من الأرض المصرية التي تمثل بوابة الأمن الشرقية منذ أمد طويل من التاريخ.

وكما أنها منزوعة السلاح، فقد كان مقصوداً أيضاً أن تظل سيناء هكذا منزوعة الاستثمارات الحقيقية للاستفادة من مواردها الطبيعية ومن سهولها ووديانها وسواحلها في إقامة مجتمعات عمرانية جديدة تكون قادرة على جذب السكان، اللهم إلا من بعض المنتجعات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بحيث تبقى سيناء أرضاً بلا سكان وبلا قوة تحميها، ومطمعاً لأفكار دولية وإسرائيلية في أن تكون جزءاً أصيلاً من حل المشكلة الفلسطينية، ومكاناً وملاذاً آمناً لجماعات إرهابية كثيرة مطاردة في أنحاء العالم.

هذه حقائق يعلمها الكثيرون، وكانت تتجاهلها أو لا تهضمها العقلية السياسية التي حكمت مصر طوال الأربعين عاماً الماضية.

وربما جاء العدوان الغادر على الجنود المصريين ليلفت انتباه السياسة الاستراتيجية والأمنية المصرية في العصر الجديد بعد ثورة كانون الثاني يناير، إلى مخاطر أن تبقى سيناء هكذا مرتعاً لكل ما هو ضد المصالح المصرية.. وكما يقول المثل الشعبي المصري رب ضارة نافعة، فقد فتح هذا العدوان الباب على مصراعيه لإعادة ترتيب الفكر المصري في كيفية حماية هذا الجزء العاري تماماً من التراب المصري.. ولم يكن أمام مصر الجديدة سوى أن تدخل السلاح الثقيل للقوات المسلحة إلى سيناء لمواجهة خطر سلاح ثقيل آخر هُرِّب إلى سيناء، لا أعلم ولا أحد يعلم كيف نجح في تخطي كل هذه المسافات من ليبيا إلى سيناء، مروراً بالصحراء الشرقية، وعبوراً لخليج السويس، ووصولاً إلى حدود رفح وأرجاء سيناء في الشمال والجنوب والوسط.

وبعد أن كانت إسرائيل تبكت مصر يومياً بادعاء أنها فقدت السيطرة على سيناء وغير قادرة على حمايتها، فقد فوجئت بجسارة القرار المصري بإدخال هذه الأسلحة الثقيلة لمحاربة الإرهاب والحفاظ على أمن مصر، وبدأت إسرائيل وصلةً من الصراخ والعويل إزاء التحرك المصري.

وهنا لابد من إبداء الاحترام، بل والتشجيع لقرارات الرئيس محمد مرسي الذي لم يتأثر بهذا العويل المبطن بالتهديدات الإسرائيلية بعد أن أيقن خطورة الوضع الأمني في سيناء.. وفي أكثر من مناسبة جاءت تأكيدات الرئيس والمتحدث باسم الرئاسة وكذا مسؤولو وزارة الدفاع، على أن أمن سيناء جزء هام من منظومة الأمن القومي الذي لن يقف أمام حمايته أي شيء، مع التأكيد في الوقت ذاته أن مصر تحترم التزاماتها الدولية، ولكن لها الحق أيضاً في تأمين هذه المنطقة الهامة والحيوية من أراضيها.

أما الحدث الثاني فهو مشاركة مصر في قمة عدم الانحياز في طهران بوفد يرأسه الرئيس محمد مرسي شخصياً، وبذلك يكون أول رئيس مصري يزور إيران بعد الثورة الإيرانية في عام ،1979 ويكون أيضاً قد تمكن من كسر جمود العلاقات بين البلدين الذي فرضه الرئيس الراحل أنور السادات لمدة سنتين فقط إلى أن اغتيل عام 1981. إلا أن الرئيس المخلوع حسني مبارك قد تمكن من استمرار فرضه لمدة30 عاماً، رغم أن مصالح الأمن القومي المصري لم تكن أبداً متعارضة مع علاقات سوية بين مصر وهذا البلد الإسلامي الكبير.. وكانت هذه القطيعة نموذجاً للانصياع الكامل للإرادة السياسية الأمريكية، التي للمفارقة العجيبة لم تستطع فرضها على دول الخليج السبع، بل إن علاقات الخليج مع إيران قد توطدت أكثر منذ الثورة الإيرانية مع نظامها السياسي الجديد سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي بجميع تفريعاته في التجارة البينية والاستثمارات والعمالة. ووحدها مصر وقعت في الفخ الأمريكي بالوقيعة بينها وبين إيران دون سبب واضح، اللهم سوى ذلك الشارع المسمى خالد الإسلامبولي قاتل السادات. رغم أن إيران قد تناست الدعم العسكري غير المحدود الذي قدمته مصر لنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حربه الطويلة ضدها.

ولو أن نظام الرئيس السابق حسني مبارك كان جاداً في احترام قواعد وأسس الأمن القومي المصري والمصالح العليا للبلاد، لكان قد تجاوب مع المحاولات المستمرة لخطب ود النظام المصري والدولة المصرية على مدى سنوات طويلة.. وكان من أسباب رفض مبارك فزاعة المد الشيعي الإيراني وكأن مصر بلد بدائي ليس فيه الأزهر الشريف المرجعية الإسلامية لأهل السنة الشريفة في كل أنحاء العالم الإسلامي.

الحقيقة أن التسليم المصري الكامل في حقبة مبارك للدوران في العجلة الأمريكية دون الالتفات إلى المصالح المصرية الخالصة، هي التي كانت تقف حجر عثرة في طريق عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين.

وواضح الأمر الآن أن الرئيس مرسي قد اختار طريقاً مختلفاً تماماً عن طريق مبارك في التعامل مع القضية الإيرانية.. طريقاً يتعامل مع الواقع الذي يقول إن إيران قد أصبحت دولة إقليمية كبرى لابد من التواصل معها، بعيداً عن عقد الخوف غير المبررة، خاصة أن مصر تستطيع في غضون سنوات قليلة أن تنفض غبار التخلف الذي أقعدها عن العمل الجاد طوال40 عاماً، وأن تتعامل بكل الثقة مع الدولة الإيرانية بكفاءة الند للند.

وفي ظني أن مصر تستطيع أن تجعل من إيران بوابة عظمى للخروج من قوقعة الـ40 عاماً الماضية، إذ يمكنها أن تستعيد دورها الإقليمي المهم إذا ما استطاعت أن تلعب دوراً إيجابياً في ملف البرنامج النووي الإيراني.

نعم تستطيع مصر أن تقنع إيران بمدى خطورة إصرارها على المضي قدماً في برنامجها النووي الذي تحيط به الشكوك القوية في إمكان تحوله إلى صناعة الأسلحة الذرية.. يستطيع الرئيس محمد مرسي أن يقنع إيران بضرورة التجاوب مع الغرب في فتح ملفاتها النووية إذا كانت بالفعل صادقة النوايا في أن برنامجها هو للأغراض السلمية فقط.

يستطيع مرسي أن يقنع إيران أن مصر لا تحتمل وجود دولة أخرى في المنطقة تمتلك القنبلة النووية إلى جانب إسرائيل، وأن يقنعها أن مصر لا تقدر على أن تكون الدولة الأضعف في المنطقة، وأن تقع بين سندان إسرائيل ومطرقة إيران.

ولكن.. هل تسمح الولايات المتحدة لهذا التحرك المصري أن يؤتي ثماره ؟

ظني أن جمهورية ثورة كانون الثانييناير سوف تمضي قدماً على هذا الطريق الطويل والصعب.

عن (الأهرام)

العدد 1104 - 24/4/2024