موسكو والتوتر بين دمشق وأنقرة

تراقب روسيا عن كثب، أكثر من غيرها بكثير، مستجدات الأزمة السورية والتفاعلات الإقليمية حول هذه الأزمة. إن المستجدات حول الأزمة السورية، وتحديداً التوتر بين دمشق وأنقرة، دفع القيادة الروسية إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي للتشاور ووضع الخطوط العريضة للتعامل الروسي مع الوضع في المنطقة في المرحلة القادمة. 

وعلى الرغم من أن ما يتم بحثه واتخاذه من قرارات استراتيجية الطابع خلال اجتماعات مجلس الأمن القومي الروسي غالباً ما تبقى بعيدة عن الإعلام، ومحصور العلم بها بين أصحاب القرار من مسؤولين روس، يرى مراقبون أن دعوة بوتين لعقد جلسة لمجلس الأمن القومي جاءت على خلفية التصعيد الخطير على الحدود السورية-التركية والأزمة مع أنقرة بشأن تفتيش الطائرة السورية. ذلك أنه رغم تأكيدات مسؤولين أتراك بأن قضية طائرة الخطوط الجوية السورية لن تؤثر على العلاقات الروسية-التركية، إلا أن تأجيل بوتين زيارته المرتقبة إلى تركيا يوم الخامس عشر من الشهر الجاري وتحديد موعد جديد لها في مطلع كانون الأول هذا العام، خطوة رأى فيها كثيرون رسالة روسية إلى القيادة التركية تعبر من خلالها عن عدم رضاها عن تعاطي تركيا مع الوضع في سورية.

 وعليه لا يستبعد المراقبون أن جلسة مجلس الأمن القومي الروسي الأخيرة جاءت للبحث في هذا الملف ولتحديد آليات التعاطي مع تركيا في الظرف الراهن، دون أن يؤثر هذا سلباً على العلاقات التجارية-الاقتصادية بين البلدين. ذلك أن روسيا تبدي حرصاً كبيراً على علاقاتها الاقتصادية مع كل دول العالم، وتحاول أن تفصل بين السياسة والاقتصاد مثلما هي الحال مع الولايات المتحدة حيث الملفات الخلافية كثيرة جداً، ولبعضها تأثير مباشر على الأمن القومي الروسي مثل ملف الدرع الصاروخية الأمريكية، لكن رغم هذا تتباهى موسكو بعلاقات التعاون الاقتصادي، وفي مجالات أخرى، مع الولايات المتحدة.

الاختلاف الحالي في المواقف حول الأزمة السورية وسبل معالجتها بين موسكو وأنقرة لا يختلف من حيث الجوهر باختلاف وجهات النظر حول هذه القضية بين كل من موسكو وواشنطن، ذلك أن روسيا تقف بحزم ضد ما ترى فيه تدخلاً خارجياً بشؤون الدول وتقديم الدعم (للجماعات المسلحة) الذي يؤدي إلى تصاعد مستويات العنف، بينما تقف الولايات المتحدة، وبصورة أكبر تقف تركيا، مع تبني قرار دولي يجيز التدخل الخارجي لحل الأزمة السورية، وتقدم الدعم للمعارضة السورية، الأمر الذي ترى فيه روسيا خروجاً على اتفاق جنيف الذي يدعو الأطراف الدولية والإقليمية إلى عدم تقديم الدعم لأي من الأطراف وعدم الدفع نحو مزيد من العسكرة للأزمة السورية.

وبالنظر إلى أن الاختلافات في وجهات النظر التركية-الروسية حول الأزمة السورية ليست جديدة، فمن المرجح أن القيادات السياسية والعسكرية والأمنية الروسية بحضور رئيسَيْ مجلسي البرلمان، ناقشوا في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي الأخير التدهور الخطير على الحدود السورية-التركية ودرسوا مختلف السيناريوهات المتوقعة، وحددوا الخطوات التي ستتخذها روسيا وفق التطورات. ولعل العمل على تخفيف حدة التوتر عبر الاقتراح الذي قدمه لافروف لإقامة تواصل أمني مباشر بين دمشق وأنقرة،والتي رحبت بها دمشق، واحدة من الخطوات التي تم التوصل إليها في ذلك الاجتماع. ومن المعروف عن السياسة الخارجية الروسية أنها تبدأ بالدرجة الأولى بالبحث عن المخارج والحلول السياسية من أي حالة توتر أو أزمة، لكنها تكون مستعدة دائماً للاحتمالات الأسوأ.

وما يدعو إلى الخشية من (الأسوأ) أمران: أولهما مضاعفة تركيا لتعزيزاتها العسكرية بالقرب من الحدود السورية في اليومين الماضيين، والتي شملت نشر أعداد إضافية من المقاتلات والدبابات والمدفعية، هذا من الجانب العسكري. أما الأمر الثاني فهو ذو طابع سياسي برز في عبارات قالها في كلمته أمام منتدى إسطنبول الدولي، شن فيها هجوماً على الأمم المتحدة واتهمها بالعجز، وعبر عن انزعاجه من أن مصير العالم رهن بيد دولة واحدة أو دولتين. وقد قرأ المحللون في عبارته (دولة أو دولتين) إشارة مباشرة إلى روسيا والصين اللتان حال استخدامهما لحق الفيتو دون صدور قرار عن مجلس الأمن حول الأزمة السورية تحت الفصل السابع. وإذا صحت تقديرات المحللين فإن تركيا ربما تستعد للمضي بعيداً في نهجها الحالي، حتى لو نتج عن ذلك خلافات عميقة وجدية مع روسيا. ولعل القياديين الروس قرؤوا هذه المعطيات بدقة، وهي معطيات تشي بتحولات سيكون لها انعكاسات استراتيجية على الوضع في المنطقة وفي العالم. الأمر الذي استدعى عقد جلسة لمجلس الأمن القومي الروسي الذي يشارك فيه الرئيس، ورئيس الحكومة، ووزراء الخارجية والداخلية والدفاع، وقادة المؤسسات الأمنية، ورئيسَا مجلسَيْ البرلمان، بهدف اتخاذ إجراءات تحول دون انزلاقات استراتيجية في منطقة ذات أهمية حيوية واستراتيجية لروسيا الاتحادية. 

العدد 1104 - 24/4/2024