محمد الوهيبي… فنان الأبعاد الإنسانية

الفنان التشكيلي  محمد الوهيبي فلسطيني المولد، سوري المعيشة بدوي الهوى، فطريته ما زالت تلامس روحه المبتكرة، كعازفٍ لأنين الحزن الإنساني في لحظات صمت عربية فارقة، تُخفي في طياتها اختصار الزمن في لقطة تصويرية هنا، وحفرية هناك. هو بلا أدنى شك فنان موهوب وأكاديمي متمرس، وعلامة فنية تشكيلية عربية معروفة في الأوساط الفلسطينية والسورية والعربية، وصلت شهرته وأعماله إلى كثير من أرجاء المعمورة العربية والأعجمية.

  وتجاربه الفنية هي حصيلة جهد فردي متواصل، له من الزمن نحو أربعة عقود ونصف، وأكثر من ثلاثين معرضاً فردياً وعشرات المعارض الجماعية والمجموعات. حفر من خلالها طريقه التشكيلي بأناة المجتهدين وبعلم العارفين لقدراته الذاتية ومواهبه الخبيرة والمُدربة في تخير مقامات بحثه التشكيلي. يستحق في لوحاته وأعماله لاسيما الحفرية المتعددة التقنيات والصنائع التي ابتكرها. لقب فنان الأبعاد الإنسانية ذات المحتوى الرمزي، والعازف الماهر على أوتار الذاكرة الشعبية الفلسطينية والأساطير العربية والعالمية، المتوالدة في عناصر مفرداته وجمله التشكيلية فوق مداد أوراقه وخاماته المتنوعة، مصحوبة بحرية البدوي الذي لا تحده حدود.

  لوحاته مفتونة بحركية الأحاسيس المرتسمة فوق ملامح شخوصه المحزونين  على الدوام، ولكنها تُخفي في طياتها مساحة ما من الأمل. مسكونة بحزن الفلاحين والفقراء وتعب السنين، ومصحوبة بالمعاناة ودروب الآلام الفلسطينية المتوارية في خلفيات النصوص. وتُفصح عن ترجمان ذاته الشخصية وتحسسه بالأشياء المحفوظة في ذاكرةتهالمخزونة، وتبوح بذكرياته المحمولة في ضلوعه وتوليفات مخيلته الصوريّة، مُنسجمة مع مسرود الأساطير وأحاديث العجائز، والسباحة الأنيقة في أروقة مواضيع شتى تربط ما بين مساحات الواقع والحلم، وترسم حدود انفعالاته المنفلتة من رغبته المفاجئة وشهوته المستدامة في الرسم والحفر والتلوين.

لوحات الوهيبي خارجة من عقال الأنا المثقفة، وتبحث عن موطئ جمالي ولمسة إنسانية تبوح بما في ذاته من رموز ومعاناة ومعانٍ. الإنسان أولاً وأخيراً، فهو شاهد إثبات على غزارة إنتاجه، ومفردة مميزة في واحة تجلياته، ومصدر إلهامه الملخصة لدرب رؤاه الشكلية ومُبتكراته. إنسانيته وطيبته المتوارية في تفاصيل شخوصه وأماكنه، تدلك على فهم إشاراته السردية وهويته، وحِرَفِيته ومساحة وجدانه. لوحات محمولة بالرمز وتقاسيم الأساطير العربية الموزعة ما بين الأرض والسماء، والماء والإنسان، تفوح منها معاني الحياة وديمومتها، وما فيها من خير ومآسٍ وحكايات.

 مُدرجة في حلول فنية تشكيلية من نوع السهل الممتنع، عفوية مُتجاوزة حدود الزمان والمكان لتظهر الدور الوظيفي للفنان كشاهد للعصر بأحداثه وذكرياته ووقائعه، مجسداً مؤشرات الابتكار الجمالية في طرائق تقنية متنوعة، وكناقل لرسالة ما، يزاوج من خلال محتواها المعرفي وأساليب الصياغة الفنية للحظات إنسانية ضائعة في أزمنة المادة والعولمة، في علاقات بصرية جميلة وحسّ حركية، مفتوحة على جدلية الفنان ورموزه التعبيرية وما ينتج عن هذا التناغم من تآلف جميل في أبعاده الفلسفية.

 اللوحة لديه مؤتلفة من حبكة شكلية، جامعة لمجموع العناصر والمعاني والمكونات التي تظهر شيئاً من المثل والقيم المجتمعة في قوالب وأطر تعبيرية رمزية، جامعة ما بين الفن كحرفة وإشاراتها العقلانية كمحتوى، تحتضن عشرات الحكايات والأقاصيص وتجعل للموروث الشعبي محددات خاصة لدى الفنان، تبرز عمق النظرة التأملية في النسيج الإنساني المتناسلة في موحيات تلك العناصر المنثورة. وتعبر في مجموعها عن ذاتية الفنان المؤمنة بالأصالة والمحافظة على التراث، وتكريس لمفاهيم (غيبية) وأسطورة العلاقة الجدلية ما بين )المرأة( مثال الخصوبة والسحليّة، كدليل على التبرك بالخير في العديد من المعتقدات التراثية، والمُعبرة عن معتقدات الفنان الذاتية في سيادة منطق الخير وديمومته وربط الحاضر بالماضي واستمرار لأحداثه.

 لوحاته مشغولة وفق معاييره هو، متداعية في منظور وحيز مكاني محدد يلبي نظرته الفلسفية، فكانت عناصره المتنوعة تشكل كتلة ثلاثية الأبعاد منسجمة، تظهر التوازن ما بين عناصرها في إيقاع فني جميل. وتشكل الزخارف الخلفية توافقاً لإظهار القيم والبعد الثالث كجزء لا يتجزأ من مجموع الكتلة ككل موحد، مندرجة في قيم لونية منسجمة أحياناً ومتناقضة حيناً آخر، تحمل خاصية اللون الواحد تارة، وإضافات لونية مناسبة متدرجة موحية بملونات المساحات وتوزع البقع الضوئية من خلالها، وتظهر في الوقت نفسه قدرة الفنان على التعامل مع رموزه وأدواته كفنان محترف امتلك مقومات الحفار وأحاسيسه وجودة المصور الملون في تقنياته.

العدد 1104 - 24/4/2024