لوحات الفنانة سوسن جلال: سباحة لونية في جماليات البيت الدمشقي

 الفنانة التشكيلية السورية سوسن جلال، هي سليلة أسرة فنية تشكيلية، حفرت بصماتها الأولى منذ نعومة أظفارها في ظل والديها وأخيها، وكانت كالنقش المُبكر على حجر الموهبة المتوالدة من رحم القول الفني المتاح، لتصقلها خبرات الأهل والأصدقاء بدراستها الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، مُتخرجة في قسم العمارة الداخلية عام 1977. لتأخذ لها مكاناً مميزاً في عالم الفنون وتدريسها في مرحلة لاحقة، مُتخذة من والدها الفنان الكبير محمود جلال قدوة حسنة، ولتشكل بذاتها الفنية المستقلة حالة تشكيلية متفردة بخصوصيتها التعبيرية، مُغردة في فضاء الحرية التقنية والتعبيرية المتاحة.
 بقيت مُلتزمة بأنساقها المدرسية التي تموج في حدائق الواقعية التعبيرية والتعبيرية التجريدية في الفن كاتجاهات أساسية، متحركة لنسج بنية لوحاتها الفنية والتقنية، مُحافظة بشكل ما أو بآخر على مضامين لوحاتها الموضوعي، الملتصقة دائماً بمدينة دمشق القديمة بكلّ زخرفها وجماليات بيانها البصري. كواحة شكلية مفتوحة على المُقاربة الوصفية ما بين المنظور الواقعي، والمحسوس المُتخيل التعبيري، والمحمولة بخصوصية بحثها الشكلي وطريقتها التقنية في رسم وتصوير مناظرها، وأسلوبيتها  المتسعة لغنى اللون وحرية انسيابه بشفافية ملحوظة فوق سطوح الخامات المستعملة.
تبني جسور التواصل البصري مع مناظرها ومضامين لوحاتها الممزوجة بأحاسيسها المفعمة بالمودة للأشياء التي أحبت رسمتها وتصويرها، مُراعية تجانس مرصوف إيقاعها اللوني ما بين درجات اللون المتعانقة في مساحات بؤرها المنظورة. فهي مُغرمة على الدوام ومشغولة في تصوير الورد الدمشقي بجميع أصنافه وأنواعه ومُسمياته وأشكاله، وبحركية خطيّة وشكلية جامعة لرقص المكونات.
 دمشق القديمة الرمز والحكاية الوجودية، هي مجالها الحيوي، وحاضنة جمالية لمشيئتها الحرة في اختيار نصوصها الفنية التشكيلية، ومقدرتها الفنية على التقاط مفاتن الجمال الطبيعي، والنقل الحسي المباشر لتفاصل العمائر السورية من أوابد وبيوت متلاصقة وأسواق متلونة بملونات الحياة والحركة الرتيبة، والمتوازنة ما بين مرصوف عناصرها ومفرداتها التشكيلية، الشاملة لجميع ألوان الطيف الشكلي واللوني، وتتجاوز في حدتها وشفافيتها حدود ملوناتها المتسعة لدائرة الألوان الرئيسة الأساسية (الأحمر، الأصفر، الأزرق) والألوان المساعدة أو المحايدة ( الأسود، الأبيض) وتدريجاتها الاشتقاقية، المنفلتة من عقال النمطية  الكلاسيكية، لتدخل مساحة الحداثة التعبيرية في الخلفيات الحاشدة بلمسات تعبيرية تجريدية من ريشة رشيقة تعرف طريقها المناسب والمتكامل فوق السطوح. وهي تؤسس من خلال جملها ومفرداتها التشكيلية كمجال بصري مُثير لحساسية المتلقي، ومُعشبة بخصوصية تأليف ووصف، وتميز تعبيري في أسلوبها وتقنياتها عن سائر أقرانها من الفنانين التشكيلين السوريين.
  اللوحة لديها مُتسعة لجميع التجارب المتصلة بالملونات المائية والزيتية والأكرليك، تشدو مقامات بصرية متواترة شكلاً ولوناً، في لعبة التشكيل البصري المتوازن من حيث توزيع العناصر وتناول فكرة الموضوع المطروق، والمؤسسة على مرصوف رؤية فنية رتيبة داخل حيز المساحات الملونة ككتل متوافقة. الورود الدمشقية لها سطوة في كثير من لوحاتها، والشخوص تسبح في فلك إنسانية الإنسان، تُحاكي بنيتها التشكيلية كجزء لا يتجزأ من مجمل المشهد البصري السوري الجميل، لاسيما البيوت الدمشقية الحاضنة لمكونات المجتمع السوري وعمائره.
تأخذ بناصية النص البصري المألوف لتداعيات البيوت والمنازل، في أشكاله الخارجية كسطوح معمارية حافلة بإيقاعات شكلية هندسية متوازنة في أوصاف الجدران والأبواب والتوافد، وإبراز تجليات المعايشة الحسيّة والمعنوية المُدركة ما بين الفنان ومدينته. لا تستخدم اللقطة الواقعية الصرفة ولا الملونات الطبيعية المعروفة للأزقة والجدران والمنازل، بل تسعى لإلباسها أثواباً لونية مُغايرة متآلفة مع ذاتها الفنية وحساسيتها اللونية مع المشهد المرسوم، تستعير مقامات التعبيرية التجريدية في رصف مداميك البنية المعمارية الهندسية، معتمدة على التبسيط للأشكال المرسومة، وتبقي لحركة اللون وتداخلاته المجال لتنويع مقاماته الشكلية، والمتناغمة مع بقع النور والظل المتداعية فوق السطوح بشفافية واضحة القسمات، بينما نراها في تقاسيم وصفها الشكلي لباقات الورود والأزهار الدمشقية، متكئة على حرية التأليف الشكلي لمتواليات الورود المرصوفة جنباً إلى جنب والمُتناغمة بصرياً وشكلياً مع الخلفيات اللونية المناسبة.
 

العدد 1104 - 24/4/2024