أعمال الفنانة جزلة الحسيني النحتية

معزوفات بصرية خارجة من رحم الكتب والأساطير

 

 الفنانة التشكيلية (جزلة الحسيني) المولودة في مدينة دمشق عام ،1965 والمتخرجة في قسم الاتصالات البصرية بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام ،1986 أقامت نحو خمسة معارض فردية، ولها مشاركات جماعية عديدة داخل سورية وخارجها. غادرت ميدانها الأكاديمي الدراسي التخصصي (الاتصالات) بحرية ورغبة مُطلقة على التغيير والتكامل ما بين مجالات الفنون التشكيلية وتقنياتها المتنوعة الأدوات والخامات.

 لتبحر في أروقة التجريب واستلهام مداد رؤيتها التشكيلية وتفريغ مخزونها الانفعالي الذاتي والوجداني، عابرة ميادين الحفر والتصوير الملون والنحت الثلاثي والثنائي الأبعاد المنظورة وجمعها في بوتقة تشكيلية متوازنة تحفظ لها خصوصيتها وتفردها في ميدانها. ولتقطف من مساحات الفنون التطبيقية بعضاً من مسارات بحثها التقني. ملامسة بذلك مضامين النحت الاجتماعي الموصول بقصص وأساطير وحقب زمنية غابرة من تاريخ سورية وبلاد الشام، الحافلة بالحكايات ورمزية الشخوص والأماكن، والمفتوحة على أماكن التيه السردي في ترجمات حسيّة وحسبة تقنية لمدونات الكلام البصري المتاح.

أعمالها النحتية خليط تقني تجمع في طيفها الشكلي تجليات التصوير والحفر والنحت، عائمة سطوحها وتضاريسها النحتية باللون الأزرق وتدريجاته الشفافة والكتومة، لما له من خصوصية تعبير ورمزية الدلالة، تلك المتوالدة من نصوص أدبية لكتّاب عرب وسوريين، وأكثرهم تأثيراً في رصف ولائمها التشكيلية ما كتبه الفلسطيني (حسن البرغوثي) في مدوناته الشخصية المُسماة (الطيف الأزرق).  والتي تملكت من الفنانة مشاعرها وحسها التشكيلي بالأشياء، خالقة حالة وجدانية من التفاعل اللحظي مع جماليات الوطن الفلسطيني في سهله وجباله وبحره وكثرة عيون الماء فيه، قادتها إلى محطات الحنين والأمل في العودة والرجوع إلى مسقط رأس ذويها في القدس الشريف.

الأزرق هو المشترك في عناقه التقني مع ملوناتها الأساسية من أصفر وأحمر، كملونات عاكسة لأحاسيسها الداخلية وتأثرها بذاكرة المكان الفلسطينية المسرودة في أروقة السطور، وهو يمثل صلة وصل شكلية في مد جسور الحزن والأمل لعودة المهجر لموطنه والعيش في ظلاله. وانعكاس الصور البصرية إلى مكونات تشكيلية مسطَّرة بملونات وخامات نحتية متآلفة، كترجمة حسيّة ذاتية بليغة المشاعر. ويتراوح أسلوبها في التشكيل النحتي المتعدد الصنائع والتقنيات ما بين الاتجاهات الواقعية التعبيرية والتعبيرية التجريدية، سواء أكان عبر النحت الطيني المباشر أم القولبة النحتية من خامات الجلود والأقمشة أو البرونز وسواها من تقنيات.

 وحبكتها التقنية في صياغة أعمالها النحتية خارجة عن مألوف التشكيل النحتي السوري والأكاديمي، فهي تبحر في تقنيات خاضعة لقانون بحثها واكتشافها الذاتي لطاقات الخامات المستعملة، وتجد في عجائن الطين النحتية صيغة تأليف بدئي لمحاورة تقنية مع بقايا قماش وجلود ورمال، صانعة بيديها واحة تشكيل نافر، وبنائية تضاريس عاكسة لوجوه وأجساد متراقصة في ظلال قصائدها النحتية في مربعات شكلية متجاورة. تارة تأخذ من صيغة الروليف الجداري النافر والغائر والمسطحات المتداخلة بيئة شكلية مناسبة لتفرغ شحنات عاطفية تعبيرية الوقع والصدى، وتارة أُخرى تؤثر صيغة النحت الكامل الثلاثي الأبعاد لنسوة متقدمات على الدوام في مسرحة شخوصها، وانحيازها الواضح والمبرر لبنات جنسها، تُشكلهن فرادى وفي مجموعات نحت حوارية.

منحوتاتها مُحكمة التوليف التقني والمتداخل السطوح والمفردات التشكيلية، وعامرة بالمتناظر والمتجاور والمتوازن الشكلي ما بين مقامات الوصف التعبيري، ومساحات التحوير الشكلي للشخوص والرموز في قوالب هندسية متوازنة.  سواء أكانت جدارية أم نحتية خلوية لأجساد نسوة متراقصات في حيز الفراغ. شخوصها وتعبيراتها الرمزية مُكرسة لمفاهيم الحرية والجموح والانطلاق، لاسيما ما تعنيه الأنثى في أعمالها النحتية وحضورها الدائم في متن أعمالها، نجدها عنصراً متوالداً في جميع نصوصها البصرية، وما تعنيه من دلالات رمزية، فهي تمثل الأمومة والخصب وعلاقتها بالأرض والإنسان، وتصل المادي بالروحاني وتفتح للفنانة بوابة البحث التقني والابتكار المُشرعة على التعبير الوجداني وجمالية الفكرة والمحتوى الموضوعي للقصيدة التشكيلية.

العدد 1104 - 24/4/2024