لماذا يصوّت الفقراء ضد مصالحهم؟

لنقل ذلك: ليس المواطنون الأكثر تواضعاً اقتصادياً دوماً من مشجّعي سياسة إعادة توزيع الثروة. هذا على الأقلّ ما يظهره لنا تصويتهم. وهذا ما تبرزه منذ عدة عقود دراسات الانتخابات الأمريكية، وأيضاً وعلى نحو متزايد دراسات الانتخابات الأوربيّة.

قدّم علماء السياسة، على مرّ السنين، والأمريكيون منهم خاصة، تفسيرات مختلفة، إذ يشرحون قائلين: عبثاً يكون الفقراء فقراء من غير أن يدركوا ذلك. حسناً ليس الأمر كذلك تماماً. وهكذا فإنّ غالبيتهم قد يسيئون تقدير كون الأغنياء ليسوا أغنى منهم بقليل، بل هم أغنى منهم بكثير.

فالأمريكيون، في الواقع، مقتنعون بأنّ ال 20% الأغنى من مواطنيهم يسيطرون على 59% من ثروة البلاد، في حين أنّهم يمتلكون في الحقيقة 85% منها. النتيجة: فيما يهدهدهم الحلم الأمريكي، قد يبالغ الأشخاص الأفقر مبالغة كبيرة في تقييم حظوظهم في الالتحاق بالنخبة الاقتصادية. ويضلّون، بالتالي، حين يدعمون إجراءات ضريبية مواتية للأغنى معتقدين أنّهم، هم أيضاً سيستفيدون منها يوماً ما.

قدّم أربعة باحثين أمريكيين مؤخراً أطروحة جديدة: فهم يرون أنّ الفقراء حين يصوّتون ضد مصلحتهم، فذلك لخوفهم من أن تقدّم سياسة اجتماعية سخية الفائدة خصوصاً… لمن هم أحوج منهم. جاعلة إياهم، في الوقت نفسه، ينحدرون إلى أسفل السلم الاجتماعي. فثمّة دوماً من هو أفقر، وبالتالي من يلقى مساعدة أكثر. وهذا ما يسمّيه أولئك الباحثون ب (last place aversion) أي الاشمئزاز من المرتبة الأخيرة. كما في ألعاب الورق، المهم أن تكون ذاك الذي لا يبقى له القميء!

وللبرهنة على ذلك قاموا بتجربة معملية. وزّع الباحثون على المُختبَرين مبالغ مالية تمثّل عائداتهم النظرية، وعرف كلّ منهم مستوى الثروة الذي هو فيه نسبة إلى المشاركين الآخرين. ثمّ خيّرهم الباحثون: هل يفضّلون الاستفادة من زيادة متواضعة في الدخل لكنّها أكيدة تماماً، أم المشاركة في يانصيب يجعلهم، إذا شاءت المصادفة أن يفوزوا به، يتقدّمون على بقية المنافسين بمرتبة أو عدّة مراتب؟

بدا احتمال اختيار أحد الحلين أو الآخر مستقراً تقريباً لجميع المشاركين. إلاّ للاثنين الأقل رغداً اللذين غالباً ما اختارا اليانصيب. الأفقر كي يخرج من ظروفه، و(الثاني بين الأشدّ فقراً) كي لا يحلّ محلّ الأخير فيما لو حدث أن ربح هذا الأخير الجائزة الكبرى.

في تجربة أخرى، وجب فيها على كلّ شخص أن يختار بين أن يعطي دولاراً واحداً، إمّا لذاك الذي يسبقه (الأغنى منه بقليل) أو للذي يليه (الأفقر منه بقليل)، آثر (ما قبل الأخيرين)، وعلى نحو منهجي، إثراء من هو (أعلى) منهم مباشرة على أن يروا من يليهم يبلغ مرتبتهم. وبعبارة أخرى، لا يهتمّ الناخب الأمريكي لأن يكون فقيراً، بالقيمة المطلقة، بل لئلا يكون فقيراً أكثر من اللازم، بالقيمة النسبية.

ثبّتت دراسات أخرى هذا التفسير، فقد وجدت سببين أساسيين لضعف التأييد الشعبي لدولة الرفاه الأمريكية: (الأمريكيون مقتنعون، من جهة، بأنّهم يعيشون في مجتمع منفتح وعادل – فلا ضرورة إذاً لإعادة توزيع الثروة -، (…) ومن جهة أخرى، بأنّ إعادة توزيع أكبر للثروة ستفيد الأقليات العرقية خاصة، فلا تفيدهم هم أنفسهم). ويشرح برونو كوتريز: (ومن هنا نشأة مفهوم (الرعاية الشوفينية)، الذي لا يعود سخاؤه بالنفع إلاّ على أبناء البلد، على النحو الذي تدعو إليه مارين لوبين في فرنسا).

وقد نعلم قريباً المزيد عن ذلك: في فرنسا، غالباً ما دُرس التصويت حتى الآن من زاوية الفئات المهنية الاجتماعية التي لا تشكّل إلاّ مؤشراً جزئياً على الوضع على مستوى البلاد الاجتماعي. وثمّة دراسة تجري الآن حول تصويت الأشخاص الأفقر (وبضمنهم الأشخاص الذين لا مأوى ثابتاً لهم) ستسمح بفهم أفضل لدوافع هؤلاء الناخبين وسلوكياتهم.

عن (Conscience Citoyenne Responsible)

العدد 1105 - 01/5/2024