امرأة في الغربة القسريّة

لم أفطن يوماً إلى ما سأتركه ورائي وإلى حجم هذا الخراب الذي سيصيب روحي إن  رحلت عن وطني…كان كل همي أن أهرب بأطفالي إلى بر الأمان. فباعتقادي أنه الأفضل لي ولهم. كنت أظن أني سأستطيع التأقلم، فأنا من طبعي التعود على كل الأمور الجديدة، وعند أول لحظاتي في هذا البلد الجديد الأوربي بهرت بجماله وبنظافته.. بالشوارع العريضة والأبنية المنظمة.وأنا بحسي الهندسي صرت أتلذذ باكتشاف أنظمة البناء في هذا البلد وروعة الهندسة ودقة تنفيذها ونظام المرور.. أدهشني الناس هنا بالالتزام بالقوانين وتطبيقها بحذافيرها دون رقيب، بهدوئهم ومراعاتهم للغير.. فقلت بنفسي إني أصبت بمغادرتي لبلد كثرت فيه عكس هذه الملامح الراقية…ولكن بعد شهر اعتادت عيناي الجمال والروعة، فصرت أحس أنها عادية.. وذهبت السكرة وعادت الفكرة كما يقول المثل العامي…نظرت حولي فوجدت نفسي غريبة بين ناس لا يمتّون إليَّ بأي صلة، لايربطني بهم رابط، ولا يعنيني كل هذا الجمال حولي، فهو ليس بلدي وهؤلاء ليسوا أهلي…رأيت نفسي أبدأ من جديد من الصفر من الألف باء، يجب أن أعدل شهادتي، ويجب أن أتعلم لغة هذه البلد الصعبة أن ابحث عن عمل ووووو..

كل هذا كان صعباً لكن الأشد صعوبةً  صورة أبي وأمي التي لم تفارق مخيلتي، ووجه أخي الفرح الشاب بنكهة طفولية.. ضحكات رفاقي ترن في أذني… جلساتنا ورحلاتنا جمعياتنا.. حفلاتنا مع الأصدقاء كل هذه الأشياء، عملي الذي أحب زملائي الذين أبادلهم كل المودة والاحترام  وغيرها الكثير، أين سأجده هنا حتى لو عشت قرناً في هذه البلد لن أجد شيئاً من هذا كله؟ أولادي أين سيجدون صدراً حنوناً كأقربائهم، وأحباباً يفرحون بفرحهم ويحزنون لحزنهم، في بلاد باردة الأحاسيس مرسومة كأنها لوحة لكن بلا روح.. لم أعد أرى الجمال الذي حولي ولا أستمتع بالنظام والنظافة والهدوء.. صرت أحن للبناء العشوائي وأفتقد للضجيج.. للأولاد يلعبون بالطرقات، للباعة الجوالين، للأرصفة الممتلئة بالبضائع، حتى للسرافيس وزحمتها، لشوارع مدينتي التي مشيتها في كل شارع ذكرى وبكل مكان عبق ونشوة. كل حجر له أثر في نفسي.. كيف سأتخلص من هذا الشعور.. أبداً لن أقدر حتى لو حاولت.. سأعود مهما طال الزمن، سأعود يوماً لأشعر بالفرح والسعادة التي غادرتني وأشعر بالأمان والدفء من جديد.. الوطن ليس مجرد بيوت وشوارع جميلة وطبيعة غنَّاء.. الوطن حب وذكريات وأشواق طفولة وشباب حنين.. أحبــك يا بلدي وأتمنى أن أحيا وأموت بين أحضانك!

العدد 1107 - 22/5/2024