من الصحافة العربية العدد 582

الحكم بالشعار الإسلامي إعادة اعتبار لأنظمة الطغيان؟

 يسود المنطقة العربية، مشرقاً ومغرباً، مناخ حروب أهلية مفتوحة ضد الذات، بمكوناتها الأصلية والتفرعات، يلعب فيها (الإسلام السياسي) دوراً قيادياً بكل المسؤوليات المترتبة عليه.

من اليمن  إلى أقطار المغرب العربي يتهدد التصدع وحدة المجتمعات في كل من تلك الأقطار، وقد كانت بين المسلمات، نتيجة انهيارات متتابعة في (الدول) التي كانت تتبدى وكأنها ضمانة الوحدة الداخلية والهوية القومية.

العديد من الأنظمة التي كانت قائمة قد تتسبب في خلخلة مرتكزات الكيان، وفرض إعادة النظر في شرعية وجود الدولة، أو أقله في قدراتها على الاستمرار على قيد الحياة.

الواضح، حتى هذه اللحظة أن (الربيع العربي)، بغض النظر عن مصدر هذه التسمية التي جاءت من الخارج قطعاً، يتبدى يوماً بعد يوم وكأنه الاسم الحركي للحرب الأهلية العربية أكثر منه الوعد بغد عربي أفضل في ظلال الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية وتوكيد الهوية الوطنية… ولعل التسمية تساهم في التخفيف من رفع الشعار الإسلامي راية للنظام الجديد.

صحيح أن أنظمة القمع التي كانت قائمة لم تكن تعبر عن إرادة مواطنيها، بل لعلها كانت تزوّر هذه الإرادة و تقزم البلاد التي حكمتها وتلغي دورها الوطني والقومي، لكن البديل قدم نفسه وكأنه امتداد لها.

اليوم لا مجال للتخيل بإمكان (توحيد الصف العربي) الذي صار صفوفاً متواجهة.

بل إن دولاً عربية غنية وذات نفوذ لا تنكر مشاركتها في تغذية الحروب الأهلية في دول عربية أخرى، بالسلاح والمال، وبتسهيل وصول (طلاب الشهادة) تحت الشعار الإسلامي  إلى (ميادين الجهاد) المختلفة في مشارق الأرض العربية ومغاربها… وكذلك بالنسبة إلى تأمين السلاح والمال و(الاعتراف) الدولي.

كذلك فإننا نشهد صراعاً مفتوحاً بين الإسلاميين فيها، إخواناً وسلفيين، يدفع البلاد نحو أتون الحرب الأهلية تحت شعارات الصراع على السلطة وموقع الإسلام فيها.

أين الربيع العربي في هذه الدول التي انتصرت ميادينها بإسقاط أنظمة الطغيان؟ وهل يكفي الشعار الإسلامي وحده للادّعاء بأن حَملته قد أنجزوا (الثورة)، وأن وصولهم  إلى السلطة هو (انتصار لإرادة الشعب)، وكفى به إنجازاً تاريخياً يعيد الاعتبار  إلى الدين الحنيف برنامجاً للحكم؟

ثم إن هذه الدول تحديداً تعيش أوضاعاً مضطربة تستولد شعوراً بالخيبة والخذلان عند الجماهير التي اندفعت  إلى (الميدان)، تحركها إرادة التغيير والتطلع  إلى مستقبل أفضل.. ولم يكن إيمانها بالدين الحنيف ناقصاً، ولا هي كانت تطلب مزيداً من المبشرين والدعاة والملتحين بجلابياتهم الطويلة أو القصيرة، لا فرق.

إن صورة (الربيع العربي) عبر الأنظمة التي تدّعي الانتساب إليه، أو عبر الدول الغربية بالقيادة الأمريكية الداعمة لهذه الأنظمة التي نجحت في احتوائها من دون مجهود يذكر، تبدو مشوشة ومشوهة. وهي لا توحي بالربيع مطلقاً، بل لعلها تقدم صورة مجسمة لفشل الإسلام السياسي في تقديم نموذج معاصر للحكم، عبر تخطّي أحقاده ومرارات تجاربه السياسية… بل إن منهج من وصل  إلى سدة السلطة منهم يقوم على التبشير بين مؤمنين بالدين الحنيف، وكأن المسلمين لم يهتدوا إليه من قبل في انتظار وصول هؤلاء الدعاة بجلابياتهم القصيرة ولحاهم الطويلة ونهجهم التكفيري لكل من خالفهم الرأي، بل كذلك لكل من طالبهم بإثبات تميزهم عن أنظمة الطغيان التي أسقطها (الميدان) خلال السنتين الماضيتين، فضلاً عمن قد يطالبهم بالمشاركة في السلطة التي لم يصلوا إليها بالبيعة بل بالحد الأدنى من أصوات الناخبين.

ما زال الربيع العربي بعيداً جداً. والخوف أن تحوله الممارسات الخاطئة المعززة بالتعصب الحزبي مجللاً بالشعار الديني،  إلى خريف بائس.

وأخطر ما في هذه التجربة التوغل في مواجهة الإرادة الشعبية  إلى حد استخدام العنف وإسالة دماء الكثرة المعارضة، بما يعيد الاعتبار  إلى نظام الطغيان، فيظهره وكأنه قد أساء الأمانة وتعسف في الحكم ولكنه لم يوغل في دماء شعبه ولا هو تسبب في ضرب الوحدة الوطنية بالفتنة.

طلال سلمان

(السفير)، 29/5/2013

 

حزب الله في سورية: صهر (المنظومة الشمالية)

الدخول في تفاصيل السياسة من دون ملاحظة السياقات البنيوية للأحداث، يؤدي  إلى كثير من التضليل واللغط والضبابية، بحيث تبدو الحجج المتناقضة مقبولة أو فيها وجهة نظر. أغلب من يناقشون وينتقدون حزب الله يستخدمون هذا المنهج، تجميع للنقاط السوداء المتناثرة في خطاب وممارسات وسياسات الحزب وتكرارها وترديدها بكثافة لإنتاج معنى محدد لهوية الحزب ومشروعه وسياساته. من الصعب جداً فهم السياسات ذات البعد الإقليمي وحتى الوطني في الشرق الأوسط، من دون وضعها ضمن إطار الصراع المحتدم منذ نهاية الحرب الباردة، بين المحور الذي تقوده طهران، وذاك الذي تقوده الولايات المتحدة.

في أيار 2000 وجه حزب الله ضربة (تاريخية)  إلى المحور المقابل، نتج عنها كشف محدودية القوة العسكرية الإسرائيلية، تضاؤل نفوذ واشنطن، والأهم تعرية النظام العربي الرسمي على نحو كامل. ما حصل في 2006 كان محاولة أمريكية لوقف صعود محور المقاومة في البيئة الإقليمية، كان ضربة (استباقية) من محور (الستاتيكو)  إلى محور (صاعد) قبل اكتمال صعوده وإنهاء حالة الهيمنة. أنهى فشل عدوان 2006 النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، الذي تربعت عليه واشنطن، فأصبحت بحاجة  إلى تحقيق توازن قوى إقليمي من دون دور مباشر لها في المنطقة، مما استدعى منها تغييراً شاملاً في اللعبة الإقليمية، لاعبين جدداً (تركيا وقطر)، أدوات جديدة (أدوات القوة الناعم) وخلق إطار صراعي جديد (المواجهة المذهبية).

حين انطلقت الأحداث في سورية، سارع المحور الأمريكي المتعطش لتعويض الخسارة (الطازجة) في العراق  إلى استغلال المطالب المشروعة للمعارضة وأخطاء وخطايا النظام، وتمكن من وضع سورية تحت مأساة الحرب الأهلية. أغلب قادة المعارضة السورية اندمجوا بالكامل مع المحور الأمريكي، آخرون منهم اتخذوا (التكفيرية) منهجاً. وأصبحت الأزمة السورية في صلب توازن القوى الإقليمي، وخرجت من سياقاتها الداخلية. حينئذ لم يعد من الممكن لحزب الله وحلفائه أن يكتفوا بخطاب الدعوة  إلى الحل السياسي والحوار ومحاولة فتح خطوط مع المعارضة، كل ذلك انتهى لأن المحور الأمريكي بقدراته المالية والسياسية والإعلامية المذهلة تمكن من جر المعارضين  إلى لعبته الإقليمية.

بعد سنتين من أكثر الأزمات (الداخلية) تدويلاً في التاريخ السياسي لما بعد الحرب الباردة، قرر حزب الله أخيراً بدء التدخل الميداني في سورية حين أصبحت صورة الصراع (إقليمية) بالكامل. حزب الله لا يتدخل ضد الشعب السوري، فالشعب السوري منقسم، ولا يتدخل ضد الأبرياء والآمنين، بل يواجه هجيناً من التكفيريين والمرتزقة والمغرر بهم، الذين انقلبوا  إلى خنجر في قلب محور المقاومة، ورمح في خاصرة حزب الله. فعلياً وقبل أن يتدخل حزب الله في الأزمة السورية كان الحزب قد خسر كل ما يمكن أن يخسره، ولا سيما في ما يخص صورته أمام جزء من الرأي العام السوري والعربي، الذي اقتنع بتدخل الحزب منذ الأشهر الأولى، وجرى التصويب عليه من زاوية مذهبية (كحليف لنظام علوي خدمة لمصالح إيران الإقليمية)، كما تردد المنظومة الإعلامية المقابلة. إذاً بعدما جرى زجّ الحزب في الفتنة، وتشويه صورته، والتشويش على ماضيه، والتلاعب بهويته، وإضعاف حليفه العربي الأهم، ماذا يمكن أن يخسر حزب الله بعد أكثر من ذلك؟ حينئذ لم يعد بإمكان الحزب إلا التدخل، لأن النتائج السلبية المفترضة للتدخل سبق أن تحققت، وبناءً عليه أصبح التدخل ضرورياً من باب تقليص الخسائر وبناء مسار جديد يتيح التعويض عن بعض الأضرار المتحققة. لقد قدمت المعارضة السورية كل الممارسات والحجج والمسوغات لتدخل الحزب في سورية، وحاولت (حشره في الزاوية)، لا لشيء بل فقط لخدمة الممول والمشغل، ولما أخرج الحزب (مخالبه) علا الصراخ والعويل والاستعطاف.

حسب ما أعلن السيد نصر الله فإن دور حزب الله في القصير هو دفاعي أولاً، وهو سيؤدي تلقائياً  إلى قطع الشريان اللبناني لضخ السلاح والمقاتلين  إلى المعارضين في سورية. تدخّلُ الحزب بهذه الحدود هدفه العام هو تثبيت توازن قوى في محاولة لدفع التسوية السياسية عبر إقناع المعارضين بأن العنف أصبح عبثياً، وهذا هو النصر المقصود بكلام السيد نصرالله، إذ إن الحزب يعي أنه لا إمكان لحسم عسكري شامل في سورية، ويدرك الحزب أيضاً محدودية قوته في الأزمة السورية، لذا سيبقى تدخله محدوداً، موضعياً، مقنناً، ومُرشداً  إلى أقصى الحدود. بهذا المعنى يكون الحزب قد حدد هدفاً (قابلاً للتحقق) لدوره في سورية. فهو لا يتحدث بلغة سحق المعارضة أو حسم الصراع أو القضاء على التكفيريين، بل يتعامل مع نقاط محددة بدقة، وهذا مقتضى النباهة السياسية، وجزء من الحكمة في إدارة المعركة.

إن المقاومة وبيئتها تخوضان المعركة في القصير بكثير من الغصة والأسى رغم العزيمة والثقة بأنها معركة مفروضة لا مفر منها. يفضّل هؤلاء أن يقاتلوا العدو الأصيل كما فعلوا أبداً. يفضل هؤلاء عدواً يليق بهم. يفضّل هؤلاء أن يستشهدوا بيد الإسرائيلي، لكن لم يُترك لهؤلاء الخيار، أتاهم العدو متمترساً بأبناء جلدتهم كما فعلت دوماً كل قوى الاستكبار. أكثر من سنتين على الأزمة في سورية، يحق فيها للمحور الأمريكي أن يزج بكل ما يملك من مقدرات وأدوات قذرة في هذه الحرب خدمة لحسابات إقليمية تتصل مباشرة بالمقاومة. لكن حين يتدخل حزب الله أخيراً ببضع مئات من مقاتليه في منطقة حدودية مع سورية يصبح هو المعتدي والمفتري والعبثي والمذهبي، لا غوغائية وتضليل بعد ذلك. من الآخر، في أيار 2013 نُعاقب على فعلتنا في أيار ،2000 والفطنة أن لا نتجاهل ذلك، فحماية النصر أوجب من النصر ذاته. أما اليوم، أن يقول السيد نصر الله وبأدلة مفصلة ورؤية واضحة إن بضع مئات من حزبه يقاتلون داخل سورية في منطقة ملاصقة للحدود اللبنانية بهدف حماية المقاومة ممن باع نفسه للمشروع الأمريكي عن عمد أو غباوة، فيصبح هو عدو الأمة بعد 30 عاماً من أسطورته ومعجزته المستمرة في مقاومة إسرائيل ؟!

يمكنكم أن تعترضوا وتنتقدوا وترفضوا موقف الحزب من الأزمة السورية، وتدخله فيها، لكن لا أحد يملك في هذا الشرق المخزون الأخلاقي والتاريخي الكافي لأن يربط ذلك باتهامات مذهبية أو أخلاقية للحزب وسيده، قليل من الخجل أيها السادة!

حسام مطر

(الأخبار)، 4/6/2013

العدد 1105 - 01/5/2024