عكار.. ساحة جديدة للتصعيد

تتوالى الانتكاسات السياسية للولايات المتحدة وحلفائها في الأزمة السورية، فقد وضعت الإدارة الأمريكية ثقلها السياسي لكي تكسب الرهان على المؤتمر الذي عقد في جنيف تحت اسم دول مجموعة الاتصال، والذي حضرته الدول الكبرى وأطراف دولية عدة. وابتغت من ورائه الخروج بمظاهرة دولية حاشدة ضد روسيا والصين وبالطبع ضد سورية. ولكن المؤتمر تحول إلى مظاهرة دولية معاكسة، إذ أسفر عن تزكية جديدة لخطة عنان ذات النقاط الست، والمتمركزة حول نقطتين هما الحل السياسي والحوار الداخلي، اللتان تشكلان المرتكزات الأساسية للسياسة السورية وللدول التي تدعمها، ومنها روسيا والصين وإيران وغيرها.
ثم أتى المؤتمر المفتعل لما سمِّي بـ(أصدقاء سورية) في باريس، الذي حُشد من أجله أكثر من 100 جهة دولية، والذي تحول إلى ما يشبه الكرنفال السياسي والمهرجان الخطابي ضد سورية، وعلت فيه الأصوات والخطابات المشحونة بالتوتر، والمصحوبة بـ(التهديدات) الهستيرية ضد روسيا والصين، وضد سورية، بأمل إعطاء رسالة إلى العالم أن مقررات (جنيف) السالفة الذكر لن تمر، وأن الحل هو إرغام مجلس الأمن الدولي على تشديد العقوبات ضد سورية ووضعها تحت الفصل السابع الذي يمهد للتدخل العسكري المباشر ضدها.

ومرة أخرى أدرك الكثير من الحاضرين أنهم بهذه الجعجعة الخطابية الفارغة لن يغيروا مجرى الأمور، فانتقلوا إلى المراهنة على المؤتمر الذي سبق، وهو مؤتمر (المعارضة السورية) الذي صبّ في حصيلة ما قرره في طاحونة مؤتمر (باريس) في رفضه لمقررات مؤتمر جنيف ووضع اشترطات استفزازية لتنفيذها.
جرت كل هذه المؤتمرات واللقاءات على التوازي مع استمرار تهريب الأسلحة والمتسللين من مختلف أنحاء العالم، وأجهزة الاتصال المتطورة إلى داخل الحدود السورية بغية الوصول إلى تحقيق إنجاز عسكري وأمني يدخل تعديلاً جوهرياً في موازين القوى.. وكانت زيارة ماكين، وهو الشخصية الأساسية المتطرفة في قيادة الحزب الجمهوري الأمريكي، إلى الشمال اللبناني، وخاصة عكار، وإعلانه عن ضرورة إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية اللبنانية، تكون مرتكزاً لما يسمى بـ(الجيش الحر) وقاعدة انطلاق له على غرار بنغازي في ليبيا، تتحول تدريجياً إلى منطقة حظر جوي. ولم يكمل ماكين هذا تصريحه، حتى بدأت الخطوات العملية لتنفيذ خطته هذه، إذ استولى المسلحون السلفيون اللبنانيون من عكار وطرابلس وغيرها، على بعض المراكز الأمنية والعسكرية اللبنانية وطردوا الجيش اللبناني منها، وحفروا الخنادق حول عكار بكاملها، فأصبحت منطقة معزولة ومقفلة بوجه الآليات وحركة السير منها وإليها، يساعدهم في كل ذلك بعض من في السلطة اللبنانية، و(المجاهدون) القادمون للجهاد في (ساحة الجهاد) الجديدة عكار!
إن الأبصار تتجه الآن تجاه المخاطر على الوضع اللبناني الداخلي والتفاعلات الخطيرة على السلم الأهلي اللبناني بالدرجة الأولى، وعلى تداعياتها المحتملة على تأجيج الصراع المسلح بين الجيش العربي السوري وبين المجموعات الإرهابية المسلحة التي تنطلق من لبنان وتركيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى فلتان أمني على الحدود السورية اللبنانية، يوسع رقعة الصراع ويجعل من تحقيق الحل السياسي أمراً عسيراً جداً.
ومهما كانت الدوافع وراء خطة ماكين هذه، سواء الاعتبارات الانتخابية الرئاسية التي اقترب موعدها في الولايات المتحدة، أم تحقيق مخطط (الفوضى الخلاقة) ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير، أم تكثيف الضغوط على سورية لإدامة التوترات الأمنية التي تعانيها، وتعطيل أي مبادرة سلمية أو إصلاح، وقيادة الأمور نحو حرب أهلية، فإن سورية ستتغلب أيضاً على هذه الخطة الجديدة، وهذا يتطلب توحيد رؤية جميع القوى الوطنية السورية المعارضة وغير المعارضة، لإنقاذ البلاد من شرور التدخل العسكري الخارجي، المباشر منه وغير المباشر، وإطلاق المبادرات نحو الحل السياسي، والمصالحة الوطنية، والحوار الشامل، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وعلى الأخص معتقلي الرأي، والحرص على عدم إلحاق الأذى بالمواطنين المدنيين الأبرياء، وتجنب القصف العشوائي، ووقف التجاوزات على نصوص الدستور المتعلقة بحرية المواطن، والعمل على معالجة حالة الركود في اقتصادنا الوطني، عن طريق التدخل الفاعل للحكومة استثماراً وإنتاجاً وتسويقاً، والسعي الجدي لحل أزمات الجماهير الشعبية التي تزيد من معاناتها، وخاصة تأمين المواد الأساسية، ووضع الخطط العملية لحل مشكلات البطالة والفقر.. إنها متطلبات الصمود السوري، هي في الوقت ذاته متطلبات حل أزمة سورية والسوريين.

العدد 1104 - 24/4/2024