لحساب من يعرقل الحل السياسي للأزمة السورية؟

، وذهبت بعض التوقعات إلى حد دفع عنان إلى الاستقالة للإفساح في المجال لتدخلات والتفافات على إرادة المجتمع الدولي، والتنصل من أي التزام سابق يقيد عسكرة الأزمة السورية أو دعم المعارضات بالأسلحة المتطورة والمال، واستنزاف الدولة السورية تمهيداً لدفع البلاد نحو حرب أهلية طويلة أو تفتيتها.
وتزامنت استقالة عنان مع جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة وتصويتها على مشروع قرار سعودي “عربي” غير ملزم، يطالب النظام السوري بوقف العنف فوراً، ويطالب مجلس الأمن باتخاذ خطوات تتيح وقف العنف، ومعاقبة “النظام السوري الذي يستخدم الأسلحة الثقيلة ضد معارضيه وضد المدنيين”.

وقد دأبت الجامعة العربية “التي اختطفتها السعودية وقطر” منذ شهور على عقد اجتماعات متتالية في الدوحة، وطالبت بتدخل عسكري تحت الفصل السابع في سورية، أو بعمل من خارج مجلس الأمن، وتسليح واسع للمعارضات السورية بغية إسقاط النظام الذي بات “يشكل تهديداً للأمن القومي”، بحسب حيثيات قدمتها السعودية وقطر الشريكتان في مؤتمرات “أصدقاء سورية” تحريضاً وتمويلاً. والمفارقة أن دولاً تشكو من أزمات اقتصادية أعلنت صراحة تمويلها للمعارضة السورية مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وتستضيف عواصم الدول المحيطة بسورية مسؤولين أمريكيين عسكريين وأمنيين، لبحث الأوضاع المتأزمة في سورية، والعمل على زيادة تعقيدها، بالضغط على الدول لفتح الحدود في الاتجاهين، لاستقبال اللاجئين، ولتسهيل عبور المسلحين إلى الأراضي السورية وارتكاب الجرائم المروعة من قتل وخطف وتخريب وسطو، ولاستمرار الشحن الإعلامي ضد سورية، والتغطية على إرهاب المجموعات المسلحة.
وليس بخاف على أي متابع أن الاستعجال في تقديم المشروع السعودي أمام الجمعية العامة، واستعجال الدول الخليجية التصويت عليه لخلق عطالة وعرقلة متعمدة لعمل بعثة المراقبين التي منحها مجلس الأمن شهراً، ولمحاولة دفن الخطة التي تنبأت الدوحة بإخفاقها منذ إقرارها، ولإطلاق أيدي اللاعبين في تصعيد الأزمة السورية تحريضاً وتسليحاً وتمويلاً، وتقديم كل التسهيلات اللوجستية والاستخبارية للمسلحين تمكنهم من فرض وقائع على الأرض تتجاوب مع الخطط الموضوعة لإطالة الأزمة وزيادة معاناة السوريين، وزعزعة ثقتهم بوحدة بلادهم وسيادتها، وجر البلاد نحو فوضى معممة وإبعادها عن دورها المزعج لزعماء الدول التابعة وأدلاّء المشاريع الإقليمية والدولية للهيمنة على المنطقة وتقاسم مواقع النفوذ فيها.
وجاءت التهديدات التركية والحشود العسكرية على الحدود السورية، واستقبال المجموعات المسلحة من دول عديدة، وتسهيل عبورها إلى المحافظات الشمالية فأعطت زخماً للضغوط الخليجية والأطلسية في محاولة لإزاحة الترددات الأمريكية بشأن العمل العسكري من خارج مجلس الأمن، بسبب تركيز الإدارة الأمريكية على الانتخابات الرئاسية القريبة. وتسعى تركيا منذ وصول حكومة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة لتهميش دول منطقة الشرق الأوسط وإبقاء إيران في دائرة الحصار والاستهداف وإزاحة سورية من موقعها المحوري المؤثر والمدافع عن سيادة دول المنطقة، كي تتفرد تركيا بالدور الإقليمي الضامن لنجاح مشروع الشرق الأوسط الأوسع، وكي ينجز تغيير خريطة المنطقة واستلاب إرادة الشعوب، وإبعاد أي شراكة روسية وصينية في تسوية ملفات المنطقة الشديدة التعقيد.
ونعتقد أن هناك من يراهن على انهيار الدولة السورية عبر التصعيد العسكري والإعلامي وتغطية جرائم الإرهابيين، لأن تقديرات المعرقلين لأية حلول سياسية منذ بداية الأزمة قبل ستة عشر شهراً ونيف، وأعمالهم العدائية غير المسبوقة ضد دولة مستقلة عضو في الجامعة العربية وحركة عدم الانحياز والأمم المتحدة “ونخص من هؤلاء أنظمة السعودية وقطر والحكومة التركية وحكومتي فرنسا وبريطانيا والإدارة الأمريكية”، ستفضي إلى تداعيات خطيرة لن يكون السوريون وحدهم وقودها، وسيستفيد من هذه التداعيات اللاعبون الكبار الغربيون وحدهم وحليفتهم إسرائيل.
ونرى أن استقالة عنان، وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بشأنها وقلقه من أن الأزمة السورية وضعت مبادئ الأمم المتحدة على المحك، واعترافه لأول مرة بأن دولاً تسلح طرفاً أو آخر لإعاقة الحل السياسي، تؤكد كلها ضرورة اعتماد معايير متوازنة في مقاربة الملفات المعقدة، وتجنب استخدام منبر الأمم المتحدة ومؤسساتها لتغطية أعمال العدوان، وشرعنة ألوان التدخل في شؤون الدول المستقلة وتغيير أنظمتها بوسائل منافية لأبسط قواعد العلاقات الدولية.
ونرى أن كشف الخروق وعدم الالتزام ببنود خطة عنان واتفاق جنيف من أي طرف والتشهير به واستبعاده من لعب أي دور في مقاربة الملف السوري، وأن التمسك بالحل السياسي للأزمة واستبعاد أساليب الحصار والعقوبات والضغوط ضد الشعب  السوري هما مدخلان لقطع الطريق على المعرقلين والمتباكين على الدم السوري، ولالتماس فرجة في جدار الأزمة المتطاول.. ويمكن أن يحدث فرقاً في هذا الشأن اختيار مبعوث دولي جديد خلفاً لعنان، وتقديم كل عون يؤمن إنجاح خطة النقاط الست بترتيبها الأخير الذي اقترحه عنان وقبلته سورية ورفضته قوى العرقلة والتدخل والعدوان.. أما اختبار صبر السوريين والانحياز المسبق لمعارضات تتباهى باستخدام العنف وأعمال التهجير والمحاكمات الميدانية للموظفين والجنود وللمدنيين الرافضين الانخراط في عملياتهم الإرهابية، فإنه سيزيد تمسك الشعب السوري بانتمائه الوطني، واستعداده للدفاع عن وحدة البلاد ضد أي مشروع تفتيتي، وسيكشف طول الأزمة وتعرجها أوجه المتلاعبين بدماء الأبرياء ومصائر الشعوب، وأمثال هؤلاء الذين يشعلون الحروب ويعيقون الجهود السلمية يستحقون أن يودعوا مصحات عقلية.

العدد 1104 - 24/4/2024