إسرائيل ومعركة إنهاك الجيوش العربية؟

تبدو الأمور أكثر جلاء ووضوحاً من ناحية ركوب موجة ماحدث ويحدث في بعض الدول العربية، من احتجاجات، واستغلاله إسرائيلياً، لتحقيق أهداف وغايات عجزت الإدارة الإسرائيلية عن تحقيقها عسكرياً أو اقتصادياً. ولعل  أبرز الأهداف الإسرائيلية من وراء استغلالها  لما حدث ويحدث في بعض الدول العربية، هو السعي الصهيوني الحثيث لتدمير الجيوش العربية القوية، أو ما بقي منها، وخلق خلل اجتماعي في الدول العربية ذات التكوين العرقي والطائفي المتنوع. لاسيما أن هذا من شأنه أن يُدخل هذه الدول في صراعات داخلية عنيفة تدمر جيوشها وتخلخل بنيانها الاجتماعي والعرقي، كما هو حاصل اليوم في عدد من الدول العربية التي راهنت إسرائيل في يوم من الأيام على لسان زعيمها بن غوريون على انهيارها، عندما أعلن أن عظمة إسرائيل لاتكمن في قنبلتها الذرية ولا في ترسانتها العسكرية، بل إن عظمتها تكمن في انهيار ثلاثة دول هي:مصر والعراق وسورية.

     والحقيقة التي لامراء فيها أن تدمير الجيوش العربية ذات الفاعلية والتأثير في الصراع العربي الإسرائيلي، شكَّل، ومازال، هدفاً استراتيجياً للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. وانطلاقاً منه دُمّر الجيش العراقي عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام ،2003 وأُدخل العراق في صراعات طائفية وعرقية، ظهرت منها فرق الموت التي قامت بالاغتيالات والمذابح والتفجيرات. وسُعّرت الحرب الأهلية بين السنة والشيعة. ولعبت قوات الاحتلال الأمريكي دوراً مشجعاً للانفلات الأمني، والتحريض العرقي والطائفي الذي جعل الصراعات العربية هي المسيطرة في الكثير من الدول العربية، الأمر الذي دفع أنظمتها للتفكير بالشأن الداخلي دون غيره، لتكون السيادة والسيطرة والهيمنة في مثل هذا المناخ إسرائيلية بامتياز. بعد أن دُمّرت الشعوب ذاتياً ونُشرت الثقافات الدخيلة وهُيئت الأجواء للحروب الأهلية والاقتتال الداخلي. مما وفّر على إسرائيل الكثير من المال والجنود إن هي دخلت في حرب مباشرة مع هذه الدول أو بعضها. فبعد القضاء على البنية الأساسية للجيش العراقي أعلن رجل الاستخبارات الصهيونية عاموس جلعاد أنه (دون العراق ليس هناك إمكانية لقيام جبهة عربية موحدة على حدودنا الشرقية)، ثم جاء الجنرال باراك فأكد: (أن العراق كان حجر أساس في الجبهة المواجهة لإسرائيل. ولم يفوّت أي معركة). بينما كتب عوزي بنزيمان الكاتب والمحلل الإسرائيلي  قائلاً: (إن القضاء على القوة العسكرية العراقية أزال من أمام إسرائيل تهديداً من الوزن الثقيل، بعد أن خرجت مصر من دائرة العداء المحيطة بإسرائيل، وقد انتهى الآن الخطر من جهة الشرق، ولأول مرة أصبحت إسرائيل في ظل حدود آمنة من الجيوش النظامية، ولم يبق سوى الحدود الشمالية كجبهة محتملة). غير أن هذه الجبهة لم تسلم أيضاً، فما يجري اليوم في سورية هو من تداعيات ونتائج ما جرى في العراق، ولكن تحت لافتة (الربيع العربي).

 كما أُدخل الجيش العربي السوري في أتون حرب داخلية مع دعاة جهادٍ قدموا من جميع أرجاء المعمورة لإقامة إمارتهم الإسلامية على الأرض السورية. وذلك بغية إنهاكه وإضعافه حتى يصبح عاجزاً عن التفكير بأي حرب مع الكيان الصهيوني. فضلاً عن عجزه عن تقديم أي نوع من الدعم لحركات المقاومة والتحرر العربية. واليوم نشهد حالة محمومة يقوم بها بعض الإسلامويين لإدخال الجيش المصري في صراع داخلي مع بعض الجماعات التي أعلنت حربها على العسكر، رغبة منها في تدمير الجيش المصري، والاستئثار بالحكم. وكل هذا يتم في إطار استراتيجية التفتيت العرقي والطائفي لجغرافية وشعوب الأمة العربية. ويُسوّق هذا بواسطة مزاعم الحرية والديمقراطية المزيّفة التي يُراد من ورائها تدمير النسيج الاجتماعي والقضاء على القوة العسكرية، وتدمير البنيان الاقتصادي لهذه الدول.

ويظهر حجم التناغم بين ما يسمى (الثورة السورية) وبين الصهاينة، إذ شهدنا الكثير من التصريحات واللقاءات، ومنها التقرير الذي بثته، قبل فترة، القناة الإسرائيلية الثانية لمراسلها الحربي في  محافظة إدلب السورية. إذ مكنه مقاتلو (المعارضة السورية) من دخول الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، وأكد له أحد قادتهم بكل صفاقة أن (شارون عيني إذا قاتل معي بشار الأسد). هكذا تفصح بعض زعامات المعارضة بكل وقاحة عن تأييدهم المطلق لإسرائيل وقادتها ورغبتهم الجامحة في إقامة علاقات مع إسرائيل إن نجحوا بما أرادوا.

وهنا يجب أن لايغيب عن بالنا ما كشفه موقع (غلوبال ريسرتش) الكندي من حقائق مذهلة عما يجري في سورية، إذ أشار الموقع في أواخر عام2012 إلى أن مخطط تدمير سورية أعدته الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل في عام 2007. وأضاف الموقع في تقرير للكاتب والباحث الجيوسياسي (توني كارتلوتشي) نقلاً عن مراكز أبحاث إسرائيلية ومركز كلين بريك للبحوث الأمريكي الإسرائيلي المشترك أن خطة وضعت لضمان أمن إسرائيل عبر استهداف سورية الدولة الحيوية والمستقلة. وقال الموقع إن تقريرين نشرهما موقع (مركز محاربة الإرهاب) التابع للجيش الأمريكي في 2007 و2008 كشفا عن وجود شبكات عالمية من منظمات إرهابية تابعة للقاعدة مهمتها إرسال مقاتليها إلى العراق وسورية. مضيفاً أن ليبيا اعتُمدت كبؤرة لتدريب عناصر القاعدة وتجنيدهم لإرسالهم في مهمات وفق أجندات الناتو.

بقي أن نشير إلى أن الكيان الصهيوني أراد مما يسمى ب(الثورات العربية) أن تنتهي لصالحه. ويؤكد هذا ماقاله الكثير من القادة الصهاينة وضباط استخباراتهم، ومنهم  (عاموس يادلين) رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية السابق، إذ نجده يقول في محاضرته المهمة التي ألقاها في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: إن هذه الثورات توفر فرصاً إيجابية ل(إسرائيل). ولخّص هذه الفرص في  تنامي الإدراك في الشارع العربي بأن إسرائيل ليست المشكلة الأساسية في الشرق الأوسط. وفي حين يواجه العالم العربي مشاكله الخاصة به، بدأ يرى أن العلل الإقليمية لن تتوارى عن الأنظار ببساطة، إذا ما حُلّت فقط القضايا بين (الإسرائيليين) والفلسطينيين. ويؤكد يادلين أن (ربيع الثورات العربية) – كما أسماه – أهم حدث وقع في الشرق الأوسط منذ سبعينيات القرن الماضي، فضلاً عن أهميته البالغة بالنسبة لإسرائيل.

ومهما يكن من أمر فإن إسرائيل لم تقتصر في دعمها للمسلحين في سورية على الأمور المعنوية والتسليحية فحسب، بل آزرتهم بقيامها بغارات على بعض المواقع العسكرية والعلمية المهمة في سورية، مستفيدة من ضرب حلفائها (الثورجيين) في الداخل لعدد من مواقع الرادارات السورية في عدة مناطق من البلاد. كما أن تركيا، الحليف الأهم للمسلحين، ساهمت في العدوان على سورية بواسطة أمور كثيرة، ليس آخرها السماح للطائرات الصهيونية في الخامس من تموز 2013بقصف أحد المواقع العسكرية في اللاذقية من جهة البحر، منطلقة في عدوانها هذا من إحدى القواعد العسكرية التركية. ولا ينكر الجنرال عاموس يادلين.. أن سورية هي المحطة النهائية المطلوبة، لكي تنطلق جميع مشروعات الدولة اليهودية، بعد الإنجاز الكبير في العراق والسودان واليمن، والقريب جداً إتمامه في لبنان. يقول الجنرال عاموس يادلين: لقد أنجزنا في السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التي أوكلت إلينا، واستكملنا العديد من التي بدأ بها الذين سبقونا.

العدد 1105 - 01/5/2024