استئناف «المفاوضات» الفلسطينية ـ الإسرائيلية ومصالح الولايات المتحدة أولاً

بعد سبع زيارات وجولات مكثفة لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، منذ توليه مهماته وزيراً، إلى عواصم القرار- الإشكالية الفلسطينية- الإسرائيلية، (نجح) كيري في الوصول أولياً إلى قرار فلسطيني (مشروط) حتى تاريخه، وإسرائيلي أيضاً، رغم ملاحظات الحكومة الائتلافية الإسرائيلية في معاودة المفاوضات الثنائية بين الطرفين، خطوة باتجاه إيجاد حل لإشكالية الصراع المستمرة منذ عقود، واستئناف المفاوضات المجمدة (رسمياً) منذ أكثر من ثلاث سنوات. ورغم أن القرار باستئناف هذه المباحثات – المفاوضات قد اتخذ أولياً بحيث ترعاه وزيرة العدل الإسرائيلية الحالية، ومسؤولة ملف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وزعيمة المعارضة الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني مع  الجانب الفلسطيني ممثلاً بمسؤول ملف المفاوضات الفلسطيني د. صائب عريقات، فإن الكثير من الملاحظات تجاهه وحول إمكان نجاحه وتحقيقه اختراقاً على هذا الصعيد، تطرح الكثير من التساؤلات.

كيري الذي وضع على رأس أجنداته المتعددة (الإقليمية- العربية، على كثرتها) والدولية والثنائية مع روسيا، ملف المفاوضات، يبدو أنه (نجح) في تحقيق اختراق حول مجرد استئنافها، دون أن يعني ذلك أنها ستمهد عملياً لحلول، ولو أولية حولها، فهو يواجه حكومة (صقرية) إسرائيلية تضم عتاة المتطرفين والرافضين لمجرد (الحلول الوسط) على علاتها ونواقصها، ويرفض تيار واسع فيها مجرد الحديث عن مبدأ حل الدولتين وفق المفهوم الإسرائيلي أيضاً. (أي عدم العودة إلى حدود عام ،1967 وشطب حق العودة، ورفض مطلق للقدس الشرقية بوصفها عاصمة للدولة الفلسطينية.. إلخ من الشروط الإسرائيلية – الأمريكية – الصهيونية).. وهي بمجموعها مسائل تشكل صعوبة تاريخية كبرى للأطراف الفلسطينية المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وفي هياكل السلطة الوطنية الفلسطينية أيضاً.

ورغم هذه الإشكالية الكبرى إسرائيلياً، والتي يصعب على الطرف الأمريكي المنحاز إسرائيلياً، إحداث اختراق فيها، لأسباب موضوعية وذاتية، فإن الجانب الفلسطيني – الرسمي الذي أصر حتى تاريخه، ولحسابات فلسطينية ودولية عديدة، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة أعوام، على رفض استئناف المفاوضات الثنائية، دون تعهد رسمي إسرائيلي- حكومي على الأقل- حول تجميد صعوباتها، وفي المقدمة مجرد تجميد الاستيطان الذي يقضم تدريجياً الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ،1967 وبخاصة القدس الشرقية ومحيطها، فضلاً عن المستوطنات الكبرى المتموضعة على حدود ما يسمى بالخط الأخضر، فإنه ينسف عملياً أية إمكانية لاستئناف هذه المفاوضات، والوصول تالياً إلى نتائج (متوازنة) وليست بالضرورة عادلة.

وعلى الرغم من التباين الواسع بين موقفي الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تجاه هذه المسائل المباشرة، دون أن نضيف مسألة حق العودة، انسجاماً والقرارات الدولية ذات الصلة، فإن هذا الاستئناف- المفترض لهذه المباحثات يطرح العديد من الإشكاليات والصعوبات تجاهها.

وفي الوقت الذي يقر فيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بأنه يتعرض لضغوط كبيرة، أمريكية خاصة، لم يسبق أن واجهها سابقاً، حول ضرورة استئناف هذه المفاوضات، وأهميتها أمريكياً، على وجه الخصوص، يواجه فيه مواقف فلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وخارجها أيضاً، تطالبه بالالتزام بمواقفه السياسية الرسمية المعلنة حول طبيعة المفاوضات المفترضة، وأهدافها المتوخاة على الأقل.. هذا في الوقت الذي تطرح فيه أطراف حكومية- إسرائيلية رفضها مجرد التعامل مع مسائل باتت مقرّة داخلياً حكومياً- حزبياً وإلى حد ما شعبياً يميناً إسرائيلياً.

الأمر الذي يطرح نفسه بقوة حول أهداف هذا الإصرار الأمريكي – الكيري، حول ضرورة استئناف هذه المفاوضات، ولو شكلياً، بهدف إحداث اختراق أمريكي – رسمي على صعيدها، وتالياً حدوث (انفراجة) ما في إطارها، يمثل في المحصلة نجاحاً ما للخارجية الأمريكية في سعيها لإيجاد حلول للإشكاليات القديمة الجديدة في المنطقة، وخاصة في ظل الظروف المتداعية عربياً والمتراجعة أوربياً وفي حدود ليست أقل دولياً أيضاً.

ويبقى السؤال الأهم حول إمكانية وظروف استئناف هذه المباحثات- المفاوضات، في سياق الإعلان الرسمي شبه اليومي- الحكومي والحزبي الإسرائيلي حول عطاءات جديدة ورخص بناء واستيطان تلتهــــم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وينظر إلى الأمر بأهمية كبرى، في سياق الإعلانات الرسمية المتكررة، وبضمنها خلال جولات كيري نفسه، حول بناء العديد من الوحدات الاستيطانية، بوصفها حقاً إسرائيلياً مشروعاً يندرج في إطار التوسع الطبيعي للمستوطنات، أو إقامة بؤر استيطانية غير (شرعية) راهناً، ومن ثم إيجاد وقائع ديمغرافية- استيطانية جديدة، مروراً برفض حل الإشكاليات الكبرى المتمثلة في طبيعة العاصمة القادمة للدولة الفلسطينية، وحق العودة المقر (دولياً) ولو نظرياً، حتى تاريخه من جهة أخرى، لأكثر من 67 بالمئة من مجموع الشعب الفلسطيني اللاجئ، والممنوع إسرائيلياً من الغالبية الساحقة للأحزاب الصهيونية من مناقشة حق العودة أو التعويض، أو تنفيذه، أو حتى الإشارة إليه.

وفي هذا السياق يواجه الرئيس عباس معضلة جوهرها كيفية التعاطي مع الضغوط الأمريكية أو التصدي لها.

هذا في الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل حكومة وأحزاباً صهيونية، على الاستفادة القصوى من المتغيرات الجارية، وماتزال في المنطقة العربية، وبضمنها القضية الجوهرية لطبيعة الصراع معها. وتسعى الإدارة  الأمريكية إلى إحداث اختراق ما بغض النظر عن مأسويته وتبعاته الكارثية على مجموع الشعب الفلسطيني، بهدف الحفاظ على هيمنتها أولاً، وعلى دورها المقرر في المنطقة ثانياً. أما القضايا الأخرى المصيرية والتي تتضمن حلاً (متوازناً)، والتوازن لا يعني العدالة، فهو على ما يبدو في آخر اهتماماتها.

إذ تسبق هذه الأوليات وهذه التفاعلات، ما يجري في المنطقة العربية، وفي مقدمتها طبيعة استقرارها وماهيته أمريكياً.

نشير إلى هذه المعضلة لنقول: إن الغالبية الساحقة الحزبية- السياسية – الشعبية الفلسطينية، لاتزال تصر على رفض معاودة المفاوضات خدمة لأهداف أمريكية – إسرائيلية حكومية، وماتحمله من مخاطر وتجاهل للمطالب والأبجديات الأولية الفلسطينية، المتمثلة في ضرورة تنفيذ القرارات الدولية (المتوازنة) ذات الصلة، وفي الرفض لمقترحات وفد قمة الدوحة الأخيرة حول التراجع عن المبادرة العربية وعن تبادل أراضي.

فهل يمثل (نجاح) كيري في مجرد استئناف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية خرقاً، أم تلبيته للشروط والضغوط الأمريكية؟ وهل يستطيع مواصلة هذا الدور المرفوض فلسطينياً على الصعيد السياسي – الحزبي – الشعبي؟

هذا ما تؤشر إليه طبيعة التعاطي الأمريكي مع شؤون المنطقة وهمومها وإشكالياتها، وفي مقدمتها موضوعة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ومحوريتها.

العدد 1105 - 01/5/2024