إليك يا حنّا مينه «الذي لا يخرج صوته من رأسه لا يجيد الغناء»

-1-

صرخت الأم.. يارب.. يارب.. أتضرع إليك، امنحني صبياً، وكيفما كان يكون.. تلك كانت صيحة والدة حنا مينه بعد إنجاب أربع بنات. استُجيب لحرقة قلب أم قديسة في مجتمع ذكوري أذاقها ألوان القسوة والحرمان، من زوجها الشقي الخائب (بائع المشبك) ومن حالة الفقر والعوز والبؤس.

هكذا قبل تسعة وثمانين عاماً ولد الطفل حنا مينه، ضعيف البنية، معتل الجسد، وتكوَّن انطباع عند كل من رآه: هذا المولود لن يعيش طويلاً.

ومع كل المصاعب والحرمانات عاش الطفل حنا مينه، رغماً عن الطبيعة، وأصبح شخصية دخلت رحاب الأدب العالمي كأحد أهم شخصياته.

اخترق شرطه العضوي، وشب رغم قسوة الحياة، تعلم الكتابة على الأكياس، بعد أن حُرم من الطفولة، وكم كان مؤلماً له عندما شاهد الرجال، يضربون والده، وهو يقوم بمساعدته على النهوض، ويحميه من قبضات وأرجل المعتدين عليه. هذا الألم لا يقل أثراً عن شعوره بالمهانة عندما وعى أن أخواته وأمه يعملون خدماً عند الإقطاعي، أو أن المعلمة تساعده للمشاركة في رحلة المدرسة التي لم يستطع دفع نفقاتها.

تبارك الألم الذي عشتَهُ يا أستاذنا حنا مينه، إنه اللبنة الأولى في مدماك شخصيتك الأدبية الإنسانية، اللبنة التي اكتمل بناؤها بجهدك وعرقك وكفاحك وموهبتك، التي أمدَّتها الحياة بالخامة البكر، وكنتَ تغذيها بالمعاناة والفكر، فكانت هذه الوحدة الفريدة بين ما عشته وما أبدعته.

 

-2-

من أدنى درجات السلم الاجتماعي ومن وحل المستنقع، خرج الأديب حنا مينه الذي عرف وحدة الضعف والقوة في نسيج النفس البشرية، من تجربته الحياتية المرة، التي تصلح مادة روائية درامية لا تقل شخصية حنا مينه فيها أهميةَ عن أبرز شخصيات أبطال رواياته، كالطروسي وصالح حزوم، وفياض، وغيرهم.

تجاوز شرطه الاجتماعي، وحمل على كاهله، عذابات تواضع المنشأ الاجتماعي: الأب الخائب، والجوع، والتشرد، والحرمان، ليصل بموهبته وكدِّه وكفاحه متنقلاً بين مهن كثيرة ليس أفضلها صالون الحلاقة في حي القلعة بمدينة اللاذقية، إلى الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، بالمشاركة في المظاهرات، وتوزيع المنشورات الداعية إلى الاستقلال، وكتابة العرائض التي قادته إلى السجن أكثر من مرة. والذي تجسد في إبداعه بمزجه بين السِّيَرَي والموضوعي، جامعاً بمهارة بين العام والخاص، الشخصي والتاريخي، في عملية نمذجة وتعميم للبطولة وأخلاقها.

اخترق حنا مينه شرطه الاجتماعي، بعرق جبينه، وأنامل يديه، وعقله النير، وتفكيره الثاقب، وثقافته الواسعة، ومعاناته المريرة، التي تحولت عبر ذاته الإبداعية إلى فن الرواية، وكتابة المقال الأدبي، والفكري، والسياسي، والنقد الأدبي. إلا أن الإنجاز الأهم لحنا مينه يبقى فيما تركه من أعمال روائية، عمَّدته مؤسساً للرواية السورية الحديثة، وركناً من أركان الرواية العربية، وعَلَماً من أعلام الرواية العالمية.

 استطاع أن يوحد بين الموهبة والجهد والمعاناة (ثالوث الإبداع).

 

-3-

اهتدى الكاتب حنا مينه إلى الفكر الماركسي، فكان غذاءً لعقله، ولروحه، بل وحتى تقوية وشفاء لجسده الضعيف، وبقي وفياً لالتزامه الفكري، وانتمائه الطبقي، فهو من الأدباء القلائل الذين توحَّدَ في تجربتهم الولاء الفكري، والانتماء الطبقي، وتعانق في إبداعهم المثال الجمالي مع المثال الأخلاقي، وحافظوا على وفائهم وإخلاصهم لما آمنوا به لا كنصوص جامدة، وإنما كرؤية وطريقة حياة، ومنهج في التفكير، ومرجعية معرفية، أسّس عليها حنا مينه، رؤيته للعالم (طبيعة وإنساناً ومجتمعاً)، فكانت الماركسية التي خاض الكاتب من أجلها حروباً ومواجهات عديدة، الأساس النظري والمرجع الموثوق في معالجاته الفنية. وقد ترجم ذلك في مواقفه من قضايا المظلومين والمضطهدين، وفي كفاحه من أجل العدالة الاجتماعية والاشتراكية، حريصاً على الصِّدْقَيْن الفني والتاريخي في إبداعه.

كثيراً ما أعلن (أنا ماركسي على رأس ورمح) في الوقت الذي تنكر فيه الكثيرون لماضيهم، ولانتمائهم الفكري بسبب ضيق الأفق والمصالح الشخصية. وهكذا بقي إخلاص حنا مينه، لفكره في أوقات الشدائد والمحن قيمة معيارية لعلاقته بإبداعه الفني، هذا الانتماء الفكري اضطره للغياب عن وطنه أكثر من عشر سنوات، متشرداً في بقاع الأرض، جمع خلالها تجربة وخبرة كفاحية، لكنه لم يكتب طيلة تلك الفترة حرفاً واحداً.

بقيت بوصلة حنا مينه تشده باتجاه الفقراء والمهمشين والمقصيين، يبشر بمستقبل أفضل للإنسان، مادام يكافح ضد الظلم والطغيان، ويواجه المصاعب، ويقف في وجه الجلادين هازماً الخوف، مجتثاً جذوره من أعماقه. ومايزال حنا مينه كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين متمسكاً بتفاؤله التاريخي رغم الانكسارات والمحن، يضرب الأرض النائمة بقدمه لإيقاظها.

 

-4-

(أيها الحجر الذي رفضه البناؤون فأصبح رأس الزاوية)، كيف صفَّقْتَ بيد واحدة، وتجاوزت ضعفك الجسدي طفلاً وشيخاً، وكيف استطاع الجسد الناحل حمل الطموح العريض. وعشت الفقرَيْن الأسود والأبيض، دون أن تضعف أو تلين روح التمرد والأنفة فيك. إلى متى تبقى (الروح شابة، مع شيخوخة الجسد)، يا من دخل فرن التجربة واكتوى بنارها، إليك أيها الصوت الصارخ في البرية كونوا في المواجهة، اهزموا الخوف فيكم شقّوا طرقاً جديدة، أنتم ملح الأرض، ارتفعوا فوق الصعاب والمحن، لأنكم خُلقتم للحياة ومقاومة الذل ورفض الهوان، أنتم أبنائي وأنا أحبكم!

العدد 1104 - 24/4/2024