التصعيد المنهجي للأزمة وسياسات التكيف المطلوبة

اصطدم المبعوث الدولي لمعالجة الأزمة السورية، كما توقع، بتعقيدات الأطراف التي لا تريد حلاً سياسياً بين السوريين، ولا تتجاوب مع اتجاهات مجلس الأمن، ولا توقف تسليح المعارضة والمجموعات الإرهابية والتكفيرية القادمة من بلدان كثيرة.. وهي تقابل كل خطوة في اتجاه إقناع الأطراف بالجلوس إلى طاولة الحوار الشامل، بتصعيد أكبر، واستدعاء للتدخل الخارجي، والمطالبة بفرض حظر جوي فوق سورية. . وتتباكى هذه الدول المنضوية في فريق التصعيد بزعامة واشنطن وحلفائها في أوربا الغربية وتركيا والخليج، على الدم السوري ومعاناة السوريين، بسبب عناد هذه الدول ومكابرتها وتصعيدها الذي يطيل الأزمة ويزيد النزيف.

وحادثة الطائرة المدنية التي اعترضتها الطائرات الحربية التركية وأجبرتها على الهبوط في مطار أنقرة قرصنة علنية، إذ قام الأمن التركي بتفتيشها ومصادرة جزء من حمولتها، بذريعة أنه ذخائر عسكرية. ولم يقدم أي دليل مقنع للشعب التركي أو لاستيضاحات الحكومة الروسية التي أقلعت الطائرة من مطار عاصمتها موسكو، وسارعت واشنطن إلى تأييد العملية التركية. وأبدى حلف الأطلسي استعداده لمساندة تركيا إذا تعرضت للخطر.

وكشفت تفاعلات عملية القرصنة التركية الاحتدام والتوتر اللذين تزايدا في المنطقة، إذ حظرت تركيا وسورية تحليق الطيران المدني لكل منهما في أجواء الأخرى، واستمرت تركيا في إطلاق قذائف المدفعية بشكل استفزازي عبر الحدود، بينما أبدت الخارجية السورية تجاوباً مع الاقتراح الروسي بإقامة قناة اتصال بين البلدين لمعالجة المشكلات عند الحدود.

وألغى الرئيس الروسي بوتين زيارة كانت مقررة لتركيا، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية، وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين. كما عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي لبحث ملابسات حادثة الطائرة، وأسباب رفض الحكومة التركية السماح لموظفي السفارة الروسية في أنقرة بالاتصال بالمسافرين الروس على متن الطائرة، في مخالفة واضحة لقوانين الطيران المدني، وللتعاون بين الدول. وإن قللت الخارجية الروسية من تأثير الحادثة على العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا.

وكانت جولة الإبراهيمي في المنطقة على وقع هذه التصعيدات الجديدة، يضاف إليها تصعيد المعارضة التي حصلت على المزيد من الأسلحة لعملياتها وتفجيراتها وتخريبها، وإعلان دول وتنظيمات علنية في دول أخرى عن وجود مجموعات منها تقاتل في سورية.

فقد زار الإبراهيمي جدة وقابل العاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز، كما زار إسطنبول وطهران وبغداد، قبل أن يختم الجولة في دمشق. وقد سمع الإبراهيمي من وزير الخارجية الإيرانية صالحي اقتراحاً من ثلاث نقاط لحل الأزمة السورية، يتضمن وقف العنف، ووقف تمرير السلاح والمسلحين إلى سورية، وجلوس طرفَيْ الصراع، النظام والمعارضات السلمية، إلى طاولة الحوار، ووقف التدخلات الخارجية، وهو اقتراح يتجاوب مع مبادرة النقاط الست واتفاق جنيف لحل الأزمة. وقد حث الإبراهيمي جميع الأطراف على التجاوب مع ضرورة وقف العنف ومنع تسلل المسلحين، لأن عدم تحقق ذلك سيزيد معاناة السوريين، وسيعيق الحل السياسي.

وتتحرك الدبلوماسية الروسية بالتوازي مع حركة الإبراهيمي لحث الدول الأوربية على تأييد اتفاق جنيف. إذ التقى لافروف وزير خارجية روسيا، نظراءه وزراء خارجية دول الاتحاد الأوربي، ودعاهم إلى التجاوب مع الجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.

ونعتقد أن مراهنة أطراف فريق التصعيد على إطالة الأزمة، وتوسيع تدمير بنية الدولة السورية، ونبوءاتهم بانهيار السلطة، تظهر بؤس السياسات المغامرة والانتقامية، كما تكشف جهل هذه الأطراف بتماسك المجتمع السوري ومؤسسات الدولة، كما أن المعايير المزدوجة التي يتعامل بها هذا الفريق مع المشكلات الإقليمية والدولية، وتدخلاته الفظة في الشؤون الداخلية للدول، وإصراره على تغيير أنظمة دول بعينها بالقوة، يمكن أن يعمّق الانقسامات والشروخ، ويزيد التوترات الإقليمية، ويوسع دائرة الفوضى وما ينتج عنها من انعدام الأمن وإضعاف هيبة الدول، وهي أمور يمكن أن تنتقل عدواها سريعاً إلى دول الجوار، وتهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي.

ونرى أن سياسات التكيف مع الأزمة نجحت جزئياً في ردع المسلحين، واستعادة سيطرة الدولة على عدد من المواقع التي استولت عليها المجموعات المسلحة، عبر مساندة متعددة الأشكال من الدول الداعمة لها، ولم تفلح هجمات المجموعات الإرهابية على مواقع نائية أو غير محروسة جيداً، في رفع معنويات هذه المجموعات. . وتحتاج سياسات التكيف إلى مزيد من الشفافية، وحشد الخبرات التقنية والمبادرات الشبابية، وإلى تثقيف منهجي يزيل مشاعر القلق والتوجس، كما تحتاج هذه السياسات من الحكومة ومن مركز القرار إلى حفز الحوارات التي بدأت، واستنباط أفكار جديدة من دروس الأزمة وتعرجاتها، وملاقاة معاناة المهجّرين والمتضررين بما يكفل لهم عيشاً كريماً آمناً ويعوضهم عن الأضرار التي لحقت بهم.

ونرى أن المشروع الأمريكي الإسرائيلي بصورته التي وضعت للمنطقة قبل عقد ونيف، يواجه ممانعة جدية، ويزيد اقتناع أطراف وقوى عديدة بخطورته وبعدالة الأهداف والقيم التي يتكاتف السوريون جميعهم من أجل إعلائها، وفي مقدمتها استقلال القرار السوري، وسيادة الوطن، وحل الأزمة بالحوار الشامل.

العدد 1104 - 24/4/2024