النابوع

أخترق الأعماق وأثناء ارتفاعي أسقي جوف الأرض من أعذب ماء وأصفاه، فأنا النابوع الصافي، إذ صُفيت مياهي من كل ماء في هذا الوجود. أرتفع، أخترق الحجب والمسافات دون أن أفقد قطرة. قطراتي ترقص عموداً مستقيماً حتى اللانهاية. أسجل في دفتر حلمي ذكرى الثانية الأولى لتكوني، فأغرس كلمتي في البحر حيث لا تصلها إلا الأغنية. حينما أصل إلى السطح تنفتح الأبواب والكوى كلها فأنتثر في الكون، لا تسورني أية قيود. هذا أنا النابوع.

هكذا قال النابوع في هذا الصباح الرائع، ثم طاف دوري له صوت شجي حوله وغناه أغنية الأرض.

وإذا بالنابوع يعاود الحديث في فرج: أباكرك أيها الدوري بكليتي فلا ترحل. وقبلك باكرت الغار، هنا الغار الذي تراه وتظنه مأواي، لا فمأواي المسير والزمن والأيدي القاسية في تموز. فمنذ استهلالي باكرت المغارة النابوعية لأجعلها محطة لانطلاقتي الأبدية، وخيمت المنارة من ثلاث جهات على استراحتي. وانطلقت من الجهة الرابعة أحمل ألق المنارة معي أينما حللت وأقص على الكل حكاية حنانها وحنوها. هذا أنها أيها الدوري فلا تعجل، هكذا ترنم النابوع. كنت أقطف حبقة برية فوق مغارته أو على سقفها حين سمعت تفجره. رجَّت الأرض برقصة عذراء وبأغنية بكر استقبلته وبلمحة كان العمود يرش الأشياء بعذوبة ولطافة. وعندما اجتمعت حسان الجبل في هذه اللحظة رحن يتراشقن بقطراته ويرقص رقصة الفجر. وتسللت الحمامة البيضاء إلى داخل المغارة تحمل في منقارها قطرة رؤيا، إنها مرآة للزمن القديم.

أنظر في الأعماق، يا له من بهاء شفاف، يشف حتى تظهر نهايته. عين النابوع ترقبني. كانت الطاحونة تغني أغنية القمح، والجاروشة تجرش ألحان الحصاد، والصدفة البيضاء تفرغ وتمتلئ. والعيون تتسمر في وسطه. أستيقظ ما زالت الحبقة في يدي وصوت النابوع يتهادى في أذني. والمغارة تفتح جهة واحدة نحو الشمس وتطلق النابوع، وأسمعه فجأة: اصغ فموَّالي يبدأ الآن، يبدأ في مواليا، يبدأ في اليادي، يبدأ في إيقاظ العيون المتعبة. يشرق على العيون الجبلية ويجليها. ويعانق الآن الأيدي المذهبة من حمل السنابل. أصغ: إنني أروي حبقتك المفضلة. إنني أدخل أنسجتها فأغزل رائحتها العبقة، وأشق هذا الدرب بقطراتي واصلاً إلى الياسمين والقرنفل والبنفسج، وإلى الشجيرات المبرعمات. هذه الأرض، هذا السهل، هذا الهواء، للحب والفرح. ألا ترى العرائس الآن وقد انطلقن في رقصة جماعية دافئة يفرشن العشب؟ أينما سرت موالي يسير: هكذا قال النابوع. الحبقة في يدي أتأمل الشروق. وألتفت وإذ عروس الصباح بجانبي. لا بد أنها تصغي لهذا النشيد النابوعي الهامس. وفجأة بدأت ترقص رقصة التفتح. إنه موسم التفتح ولاحظت حبقتي تقفز من يدي، وها هي أيضاً ترقص لتشارك عروس الصباح رقصتها. الكل في رقصة صباحية مدهشة. وتذكرت حسان الجبل، ومن البعيد فوق الذروة رأيتهن في رقصة بديعة. أما النابوع فقد خلع ثوبه المائي وشارك الجميع في الرقص. ونظر إليّ خلال نقلته وقال: هيا إلى الرقص. وتوقف قليلاً عن التأمل. ووجدت نفسي أرقص فوقف سقف المغارة والشمس تغسل وجهي والنابوع يقطر قطراته على فمي وخدي. أخذت حبقة أخرى من زهرة الحبق ونشرت رائحتها على العرائس. تلفت رأيته يعود إلى طريقه، ولاحظني فقال: أغادرك الآن على طريق الحياة والأبد في رحلتي الزمنية.

أرافق الشحرور والدوري والصباح والصفصاف. أرافق الأيدي والأرجل. أرافق السعادة والقوافل والسيارات. لن أنام في الليل ولن أسترخي، فالراحة في اللقاء. لا راحة بل غناء، هذه هي أغنيتي. لا راحة بلا لغة الشمس، هذه لا هي أغنيتي. لا لغة بلا حروف مشعة بأنوار الحياة، هذه هي ألحاني.

هكذا ناغى النابوع.

الصدى ينقل كلمات النابوع إلى حسان الجبل، وإلى نسمات الصباح، وينتقل حتى الذرا البعيدة. أغنية النابوع تنتشر في الأرض.

محمد خالد رمضان

العدد 1107 - 22/5/2024