السعودية… ومعضلة البحث عن الدور الإقليمي

بعد أن ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية وأسقط آخر خلفائها يوم الثالث من آذار عام ألف وتسعمئة وأربعة وعشرين، شعرت جميع الأسر الحاكمة التي كانت تحكم في منطقتنا العربية، تحت وصاية التاج البريطاني، أن منصب خليفة المسلمين هي الجائزة الكبرى التي يجب أن تحصل عليها بعد أن تخلى عنها أصحابها الرئيسيون. وكان تقدير قادة هذه الدول أنه حتى بعد تأسيس الجامعة العربية فإن منطقة الشرق الأوسط يغطيها ظل إسلامي يحتاج إلى تعبير سياسي عنه، وهذا التعبير لا يتقاطع مع فكرة الجامعة العربية، بل هو استكمالٌ لدورها وتعزيزٌ لقوتها.

الشيء الغريب في هذه الفكرة أنها كانت تتقاطع مع المخططات البريطانية، ولاحقاً الأمريكية، التي كانت تؤسس للحلم الصهيوني في فلسطين. ذلك أن لندن وواشنطن كانتا تدعمان وتشجعان فكرة الخلافة، ولكن من منظور حلف عسكري إسلامي يجمع جميع دول الشرق الوسط مع دول الحزام الشمالي المحيطة به مباشرة، وهي تركيا وإيران وباكستان، إضافة إلى إسرائيل بعد قيامها، بهدف إغلاق الطريق على الاتحاد السوفييتي ومنعه من الوصول إلى المياه الدافئة ومنابع النفط في الشرق الأوسط.

العقبة الوحيدة التي اعترضت هذه المخططات كانت البحث عن دولة تستطيع واشنطن أن تسلمها صك زعامة المنطقة، كوكيل وممثل للمصالح الأمريكية والصهيونية، في هذه المنطقة الهامة من العالم، حيث تصارعت العروش الأربعة في تلك الفترة (الهاشميون في عمان وبغداد، آل سعود في الرياض، عائلة محمد علي في القاهرة) على هذه الوكالة. ومع سقوط الأنظمة الملكية في القاهرة وبغداد، وتراجع دور عمان إلى مجرد بيدق على رقعة شطرنج الشرق الأوسط، لم يبقَ سوى الرياض التي يمكن أن تلعب هذا الدور، لسببين اثنين: الأول وقوع أهم المقدسات الإسلامية على أرضها. والثاني الاحتياطي الهائل من البترول ومقدرتها المالية الهائلة التي تجعلها قادرة على لعب أدوار كبيرة في المنطقة. وما ساعد الرياض على القيام بهذا الدور، أن العالم العربي ترهّل وأصبح جسمًا بلا رأس يقوده، وقلب يضخ دماء الشباب في شرايينه، بعد أن تراجع دور القاهرة منذ توقيع اتفاقية كامب – ديفيد مع الكيان الصهيوني، وانشغال دمشق بقتال العصابات المسلحة التكفيرية، التي تحاول تدمير الدولة السورية وتأسيس إمارة لها كي تمارس شذوذها الفكري والعقائدي، والتي تقدم لها السعودية جميع أنواع الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وقيام واشنطن بتدمير بغداد يوم التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة.

فالرياض منذ موجة المد اليساري في أواسط القرن الماضي، بدأت تعيد النظر في العقائد الأساسية التي تؤمن بها، وعلى رأسها القومية العربية.. فقد رأت أن الخطر الأكبر عليها يأتي أولاً من القومية العربية، والشعارات اليسارية التي رفعتها، مثل (بترول العرب للعرب) وبروز مصطلحات مثل (ثروات العرب). إذ رأى آل سعود أن هذا البترول بترولهم، وهذه الثروات هي ثرواتهم الشخصية، ومن أجل ذلك شنّت السعودية حرباً باردة ضد المد القومي العربي واليساري، في العقدين الخامس والسادس من القرن المنصرم، تحوّل إلى حرب ساخنة في اليمن وسورية. وكعائلة شيمتها الغدر والخيانة (وخصوصاً بعد أن بدأت تتكشف أبعاد تآمر هذه العائلة على مستقبل ومصير المنطقة وسكانها) أدرك آل سعود أن الاطمئنان والركون لدرع الأمان الذي تقدمه واشنطن لهم هو درع وهمي، وخصوصاً بعد أن هبّت رياح (الربيع العربي) على المنطقة. فقد وجد آل سعود الحاكمين في الرياض أن واشنطن قد تخلّت سريعاً عن حلفائها في المنطقة، الواحد تلو الآخر، في أسابيع قليلة. لا بل رحّبت بهذا التغيير وتعهدت بدعمه. ومن أجل هذا كله بدأت الرياض بالتحرك على كامل المساحة الممتدة من باب المندب باليمن إلى شواطئ المتوسط في سورية ولبنان، ومن ضفاف الخليج في البحرين إلى شواطئ نهر النيل في مصر والسودان.

كل هذا جعل الرياض تُصاب بعقدة البحث عن دور على مسرح السياسة الإقليمية، إذ حاولت أن تُمسك بأوراق وملفات في محاولة للتأثير على قرارات دول الجوار، وتعمل على خلخلة أمنهم واستقرارهم حتى تتمكن من السيطرة على توجهاتهم السياسية في المجال الداخلي والخارجي. كي تتمكن في المرحلة الثانية أن تضغط على اللاعبين الكبار على مسرح السياسة الدولية حتى يغيروا من بعض مخططاتهم الاستراتيجية بما يناسب مصالحها وتوجّهاتها. وقد ساعد الرياض على لعب هذا الدور امتلاكهم الكثافة السكانية والثروة التي تتيح لهم شراء أحدث المعدات التقنية وامتلاك التكنولوجيا العسكرية المتطورة. إضافة إلى موقعها الاستراتيجي الهام  والذي تحاول أن تستغله لتوسيع نفوذها. إضافة إلى العقيدة الوهابية المتشددة، التي تُعد المرجع الأساس للتنظيمات التكفيرية الجهادية، التي تستخدمها الرياض رأس حربة في زرع الفوضى وتأليب المكونات السكانية والعرقية والدينية بعضها على بعض في دول الجوار الإقليمي لها.

إن الرياض قد تدفع الثمن باهظاً جداً نتيجة استنزاف قدراتها وطاقتها في ملاحقة حلم أن تكون دولة إقليمية بارزة، شنّت في سبيل تحقيقه حروباً بالوكالة في مناطق كثيرة على امتداد منطقة الشرق الأوسط، في وقت كانت تحتاج فيه الرياض إلى الالتفات إلى معالجة مشاكل الفقر المتزايد والجهل المتصاعد والبطالة التي تفشّت بكثرة في ربوع المملكة. إضافة إلى الغضب الشعبي الذي بدأ يتصاعد داخل المملكة وخارجها نتيجة سياسات التمييز الديني التي تتبعها الرياض، واحتقارها لمعتقدات الآخرين وعقائدهم ومقدساتهم.. فالإرهاب الديني الذي رعته الرياض وصدّرته إلى الخارج سيرتد عليها عاجلاً أم آجلاً، والسياسات الطائفية والمذهبية التي بذرت بذرتها في المنطقة ستُثمر وحشاً كاسراً يقضُّ مضاجع الرياض ويهز أعمدة سلطة آل سعود.

العدد 1104 - 24/4/2024