الأزمة التونسية… إلى أين؟

إن الفساد والاستبداد السياسي والبطالة كانت الأسباب الثلاثة لاندلاع الثورة التونسية، ومع دخول الثورة التونسية عامها الرابع، لا تزال هذه الأسباب قائمة وترخي بظلالها على المجتمع التونسي، لا بل إنها قد تفاقمت بسبب السياسات الخاطئة التي انتهجتها حركة النهضة والترويكا الحاكمة في تونس، نتيجة الخوف من فقدان السلطة وعدم الثقة بالشريك في الوطن.. الأمر الذي أدى إلى الفشل الذريع في إدارة شؤون الدولة والمواطن، وعدم القدرة على إخراجهما من المستنقع الذي قادهما إليه رئيس تونس المخلوع زين الدين بن علي.

فقد فشلت الحكومة التونسية في قراءة مفهوم الثورة قراءة صحيحة، فبدلاً من تخطي أو تجاوز مرحلة حل المشاكل التي ورثتها عن النظام السابق، إلى مرحلة جديدة أساسها رؤية استراتيجية عصرية ومتطورة لمستقبل تونس، نرى أن الترويكا وحركة النهضة قد أدخلت البلاد في دوامة من المشاكل والأزمات، بدأت تهدد المكتسبات التي ناضل من أجلها التونسيون من عهد الاستقلال إلى ما قبل موجة (الربيع العربي).

وفشلت الحكومة التونسية من الانتقال من مرحلة حكم الدولة إلى مرحلة إدارة الدولة.. فحين كان بن علي في الحكم كان نموذجاً للحاكم الفرد الذي لا رادّ لمشيئته، لذلك احتاج إلى القوة والقمع كي يحمي نظامه، ولكن بعد الثورة كان لا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة هي إدارة الدولة وشؤونها، ولكن ما نراه أن حركة النهضة أعادت إنتاج أدوات القمع والاستبداد تحت مسميات جديدة كلجان حماية الثورة.

أيضاً، لم تستطع حركة النهضة الانتقال من مرحلة استنزاف موارد الدولة إلى القيام بالخطوات الأولى لتعبئة موارد الدولة العامة، فحين تسلّمت حكومة (الترويكا) مقاليد (الحكم) وجدت الدولة تعاني استنزافاً في كل المستويات، الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ذلك أن هذه الموارد كانت تخدم مصلحة الحاكم الفرد ودائرته الضيقة من المنتفعين والمستغِلّين. وكان المطلوب الانتقال إلى التعبئة الشاملة لموارد الدولة من أجل تحقيق المصلحة العامة، وتجاوز مرحلة الاستنفاد نحو البدء بالإنتاج من أجل إقامة دولة قوية وقادرة.

فلم تستطع حركة النهضة حتى الآن الانتقال من الدولة – الشركة التي كان نظام بن علي يديرها كملك خاص له، يتصرف به كما يحلو له بائعاً أو راهناً أو واهباً، إلى مفهوم الشراكة في الدولة، حيث كل مواطن هو شريك ومسؤول. كذلك الأمر فقد فشلت حركة النهضة في بناء علاقات خارجية قائمة على أساس المساواة والندية وليست مبنية على علاقات التبعية.

هذا الأمر جعل حركة النهضة تفشل فشلاً ذريعاً في الانتقال من الدولة التي تدور حول شخصية الفرد الحاكم، إلى مفهوم الدولة المشروع لجميع أبنائها، ذلك أن الخلفية العقائدية التي تحكم نظام حركة النهضة تدور هي الأخرى حول مفهوم الدولة التي تدور حول مفهوم الشخص الحاكم.

كل ذلك جعل الاستقرار السياسي في البلاد، مهدداً بالتقويض في أي لحظة؛ لأن (الترويكا الحاكمة في تونس) قررت أن تجعل من المجلس التأسيسي (سيف ديموقليس) مسلطاً على رقبة الشعب التونسي حتى لا يفلت من قبضتها، إذ لا صوت يعلو على صوت المجلس التأسيسي في نظرها، هذا المجلس التأسيسي الذي حاز من الصلاحيات التي من أجلها نصفها فقط قُتل يوليوس قيصر، ومع ذلك لم تحقق الأمن والأمان للمواطن، بل لم تحقق أياً من الأهداف التي من أجلها قامت ثورة الياسمين في تونس.

إن حركة النهضة لم تستوعب حتى الآن تجربة (الإسلام السياسي) في الحكم، الذي دخل في أزمة هيكلية منذ سقوط حكم المرشد في مصر وتفاقم الفوضى الأمنية في ليبيا التي تُنذر بتقسيم البلاد، ولم يعد ذلك التيار يستهوي الشارع العربي بعد أن بدأت شعاراته بالتساقط، ورأى المواطن العربي أن معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية هي بداية الحل لا أي شعار آخر. فمعدل عمر (الإسلام السياسي) في الحكم ببلدان (الربيع العربي) يعد الأقصر مقارنة بالتجارب الليبرالية والاشتراكية والقومية السابقة بالبلدان العربية. كما أن احتمال بقاء هذا التيار حزباً حاكماً في تونس أمر غير وارد، بعد أن بدأت شعبيته بالتآكل، ومن غير الممكن نجاحه بالنسب السابقة نفسها في الانتخابات المقبلة، وهو ما يفسر العراقيل التي تضعها حركة النهضة حالياً من أجل تأجيل خروجها من الحكم في تونس. ويتوقع حدوث موجة من الاضطرابات الأمنية تتخللها عمليات إرهابية خلال الفترة المقبلة، ستهدد منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا، ذلك أن حكومة النهضة والتيارات التي تعتنق أفكارها ترى أن الخروج على حركة النهضة هو خروج على الحاكم بأمر الله، يستوجب قمعه بكل الوسائل الممكنة وردع من تسوّل له نفسه التصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت مساوئها ظاهرة للعيان.

طرحت حلول عدة لحل الأزمة، فاليسار التونسي والنقابات العمالية وضعت أمام الحكومة حزمة اقتراحات، لكن المتشددين في (النهضة) يخاتلون من جهة، ويدعون أنصارهم إلى إبراز العضلات لترويع التونسيين من جهة أخرى.

الوضع في تونس مرشح للتفاقم، وقد تبدو الانتفاضة الشعبية المصرية على حكم الإخوان هي السيناريو الذي ينتظره التونسيون.

العدد 1104 - 24/4/2024