«النسيان»… الأرواح هي صنيعة الحب الذي نتشاطره

دشن قابيل عهد القتل، وبسط هابيل درب الشهادة.. وبين القاتل والقتيل انجلت أقدار النفوس وافترقت، فسالت الأودية بقدرها، وارتفع سعار الكره والحسد، وحرك قلوباً وحشية أعتم مرآها.. وارتسمت الحروب لعنة تحرث بواطن الصالحين والطالحين، ليثمر الزرع الطيب بين أهله فيشرق، وليتبعثر الخبيث في ظلمات متراكمة تمتن التيه والزيغ.. دوامة تخلف أخرى في ابتلاع المزاعم والخيارات، وتنقية المسارات والآفاق، فلا تعلو إلا صورةُ كون يتنفس وجداً.. تتشرب أنفاسه حنايا الأفئدة القلقة، فيستغرقها السؤال: بماذا ننتفع إن حققنا الفوز في الحرب، ثم خسرنا الأرض والإنسان؟

يلتمس المخرج جوزيف كوسينسكي (joseph kosinski) الجواب عن هذا السؤال في فيلمه النسيان (oblivion)، مستخدماً قالب الخيال العلمي التجديدي، الذي يخوض في توقعات نهاية العالم والخيارات المتاحة لمقاومة الفناء.. وتتخذ فكرته صيرورة مميزة تتمثل في هاجس الحفاظ اليائس على ما بقي من ذكرى الأرض في أذهان إنسانية مسحت تقنياً، وُدجنت لصالح الذكاء الصناعي المتحكم..

تحدد الأحداث زمنياً بعام 2077م، بعد خمسين عاماً من دمار كوكب الأرض، إثر مواجهة بين سكانها والغزاة الخارجيين، وقيام محطة صناعية بشفط مياه المحيطات وتحويلها إلى طاقة انشطارية. وتعيين التقني جاك (توم كروز) مع شريكته فيكي، لتأمين الحوامات المشرفة على العمل وإصلاح أعطالها.

تلح ذكرى مجهولة على ذهن جاك، رغم عملية مسح الذاكرة التي خضع لها، وتحرك بداخله موجات حنين غامضة، ترافقها تساؤلات وآمال بعودة الحياة على الأرض. بالمقابل تبدو فيكي أكثر انصياعاً للعقل الصناعي الموجه لكليهما. فحين يحدثها جاك عن بقعة ناجية من الأرض، وعن جمال الحياة الطبيعية، تنفر من كلامه وتذكَّره بضرورة الانصياع للتعليمات.

في إحدى جولاته الاستطلاعية على الأرض يتعرض جاك لهجوم، ويسقط في أحد الأماكن القديمة المدمَّرة، فيجد كتاباً صغيراً يتحدث عن نظام روما القديم، فيأخذه إلى المنشأة المؤقتة. وحين يفتحه يتأمل متحيراً عبارة وضع تحتها خط: (كل مِيتة للمرء في سبيل رماد آبائه ومعابد آلهته، ستكون أفضل من مواجهة مخاوفه). وهي العبارة المفتاحية التي ستبين القدرة الهائلة للذكرى المحفوظة في الروح، على اجتراح معجزة العودة إلى أيقونة الحب، بوصفها معياراً للحساسية الإنسانية العليا، والقربان الذي تذبح النفس الأمارة على مذبحه. 

تتخذ المشاهد السينمائية في الفيلم طابع السريالية، فالصورة لا تحمل الزخم التكثيفي المعتاد في السينما الأمريكية الحديثة. مما يضفي حالة من الشاعرية الغامضة توافق أجواء نهاية العالم، ولكن مع ترقب خافت يفترض فيه أن يعلي صعود الحيوات إبان احتضارها الافتراضي. وحين يكتمل اجتماع الناجين مع جاك الذي يعطى لقب القائد، نكون قد أصبحنا في خيارات مقاومة التلبد التقني وعبوديته. إذ تتضح مؤامرة الذكاء الاصطناعي ودوره في استثمار كراهية البشر وأحقادهم، وتوجيهها نحو الدمار الكلي، بعد خطف جاك من منظومته الفضائية قبل الغزو، وتحويله بعد نسخه إلى وسيلة تخدم مآربهم. لذلك تكون الذكرى الباقية عاطفية، مقرونة بحبٍّ جمع بين جاك وجوليا، وهي الصورة المادية للحب، التي تسهل مرور المحبة من الروح إلى النفس، وتدفعها للتوثب عبر تحريك غريزة الحماية.

ينجح جاك في تدمير العقل الصناعي الذي توهم الألوهية، وتعود زوجته مع الناجين إلى البقعة الآمنة من الأرض، لتمر سنوات ثلاث قبل أن تظهر نسخة أخرى لجاك تعوض التي قضت في التفجير الانتحاري.. نسخة مطابقة تُذكِّر جوليا بأنها أججت أحلامها في الليل وأيقظت ذكرياتها في النهار، وأنها أدمنت البحث حتى وصلت إلى المنزل الذي بناه جاك.. المنزل/الوطن؛ الذي شهد أن الأرواح هي صنيعة الحب الذي نتشاطره، والذي لا يبهته زمن ولا ينهيه موت.

العدد 1104 - 24/4/2024