هل دخلت الأقطار العربية مرحلة التفتيت؟

بالرغم من عدم قناعاتي المطلقة بإرجاع كل أسباب المشاكل التي يعاني منها العرب والمسلمون إلى نظرية المؤامرة التي أصبحت الغذاء الروحي لبعض المثقفين والمفكرين العرب، إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال نفي أن ثمة مصالح لهذه الدولة أو تلك، تدفعها لإثارة المشاكل في هذه الدولة أو تغيير النظام في تلك والإتيان بنظام أكثر قبولاً للشعب في هذه الدولة، ومحافظاً على مكتسبات تلك الدول التي أرادت الظهور بمظهر الديمقراطية حتى مع أقرب الحلفاء. والحقيقة أن المرء لا يمكنه بحال من الأحوال قراءة ما يجري في المنطقة العربية، ومنها سورية بطبيعة الحال، قراءة بعيدة عن المخططات الغربية والصهيونية قديمها وحديثها، ويؤكد هذا بعض التصرفات والتصريحات من الدول الغربية وإسرائيل على حد سواء. ففي عام 1980 بعد أن أشعلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب العراقية الإيرانية، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي بريجنسكي (أن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن ( 1980) هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى – التي حدثت بين العراق وإيران – تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو). وعقب إطلاق هذا التصريح بدأ المؤرخ الصهيوني برنارد لويس، بتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، (وضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعاً كلاً على حدة، ومنها العراق، وسورية، ولبنان، ومصر، والسودان، وإيران، وتركيا، وأفغانستان، وباكستان، والسعودية، ودول الخليج، ودول الشمال الإفريقي.. إلخ، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية  وقد أرفق بمشروعه المفصل هذا مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه، تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت، بوحي من مضمون تصريح بريجنسكي. وبعد ذلك نشر برنارد لويس (وهو مفكر يهودي صهيوني أمريكي، وأحد أشهر المستشرقين في العالم) مقالاً في مجلة تصدرها وزارة الدفاع الأمريكية Executive Intelligence Research Project في حزيران ،2003 اقترح فيه إعادة تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات مسخٍ، تبدأ بتقسيم العراق إلى ثلاث دول (كردية، وسنية، وشيعية)، وسورية إلى ثلاث دول (علوية، ودرزية، وسنية)، والأردن إلى دولتين إحداهما للفلسطينيين والثانية لمن أسماهم البدو، ولبنان إلى خمس دويلات (مسيحية، وشيعية، وسنية، ودرزية، وعلوية)، والسعودية لعدة دويلات، كما كان الوضع قبل أن يوحدها الملك عبد العزيز بن سعود، ومصر إلى دولتين (إسلامية، وقبطية)، والسودان إلى دولتين جنوبية زنجية وشمالية عربية، وموريتانيا إلى دولتين عربية وزنجية، كما اقترح إنشاء دولة خاصة بالبربر، واقترح تقسيم إيران إلى أربع دول. والحقيقة أن الهدف الذي أراده برنارد لويس من مشروعه هذا كان خدمة إسرائيل في المقام الأول، لأن تلك الدول والكيانات لن تكون فقط غير قادرة على ألا تتحد، ولكن سوف تشلُّها الخلافات التي لا تنتهي…، ولأنها ستكون أضعف من إسرائيل، فإن هذا سيضمن تفوّق إسرائيل لمدة خمسين سنة قادمة على الأقل. ويبدو أن المحلل الإسرائيلي المعروف ألوف بن تابع فكرة برنارد لويس، ووجد فيما يسمى بالثورات العربية التي ظهرت في نهاية العام2010 وانتشرت في العام ،2011 تحقيقاً للمشروع الحلم الذي أطلقه برنارد لويس، ويؤكد هذا ما جاء على لسان بن في جريدة (هاآرتس) في 25/3/2011 من أن الثورات العربية ستعيد صياغة المنطقة، وأن الوضع يبشر بنهاية الحدود والترتيبات الناشئة عن اتفاقية سايكس/بيكو، على اعتبار أن سايكس/بيكو لم تمزق المشرق العربي بما فيه الكفاية، وأن السنوات المقبلة ستشهد دولاً جديدة. وتوقع ألوف بن انفصال إمارات الخليج عن اتحاد دولة الإمارات، وتقسيم السعودية، وسورية، وليبيا، والسودان، واليمن، وظهور كردستان، وانفصال الصحراء الغربية. وأكد أن هذا الانقسام سيُسهل الأمر على إسرائيل. ولذا فإن إسرائيل استوعبت الصدمة نتيجة غياب بعض حلفائها في المنطقة، بسبب ما قيل إنه (ثورة) في بلادهم، وقامت بقذف كرة اللهب على من يناصبها العداء، لكي يكون الكل ضعفاء وراضخين بشكل أو بآخر لما يمليه عليهم الغرب وإسرائيل. ويؤكد هذا ما كتبه إيليوت أبراهام المعروف بتوجهاته الدينية اليهودية الليكودية، والذي يشكل مع دينيس روس الثنائي الذي يقوم بإدارة دولاب شبكات عناصر اللوبي الإسرائيلي في داخل أجهزة الإدارة الأمريكية والبيت الأبيض، فقد سعى إيليوت أبراهام من خلال كتاباته في الواشنطن بوست بتاريخ 25 آذار (مارس) 2011 م)، ومجلة (ويكلي ستاندارد بتاريخ 11 نيسان (أبريل) 2011 م) للتأكيد أن نجاح العمليات السرية الإسرائيلية  الأمريكية لتأمين فعاليات استمرار الاضطرابات في سورية كي تكون بلا نهاية، سوف يفيد كثيراً لجهة إضعاف سورية وإتاحة الفرصة لإسرائيل للقيام بابتزاز دمشق في أي مفاوضات سلام قادمة معها.

  أجل، هذا هو ما يريده الغرب منا، وهكذا يتمنون بقاءنا ضعفاء مشرذمين، ومن المؤسف أن يجد عدونا بعض من يستغله من إخوتنا وأبناء جلدتنا، إما لضعف في نفوسهم، أو لفاقة أصابتهم نتيجة سياسة خاطئة لهذا النظام أو ذاك، فتنجح هذه الفئة أو تلك في استغلالهم بدراهم قليلة، من غير أن يدريَ هؤلاء أنهم بفعلتهم هذه يُقدمون على تقسيم وطنهم، وتفكيك أمتهم تمهيداً لدخول الجميع حكاماً ومحكومين في دائرة الفوضى والعنف الدموي، والمؤسف حقاً أن يقوم العدو بالرقص والغناء على جثثنا وأشلاؤنا أثناء تنفيذه لمخططاته، وهذا حقيقة وليس خيال، فقد أفادت صحيفة (يديعوت أحرونوت) أن المغني الإسرائيلي عمير بينايون سجّل مجموعة أغانٍ باللغة العربية، بمبادرة عضو الكنيست ونائب وزير تطوير الجليل والنقب (أيوب القرا) بينها أغنية بعنوان (زيني) تبرز فيها لكنة الإسرائيليين عندما يقولون كلاماً بالعربية، لتشجيع حركة الاحتجاجات في سورية. والمعروف أن بينايون متدين وينتمي إلى حركة (حباد) الدينية اليمينية المتطرفة. وقالت (يديعوت أحرونوت) الصادرة في 3/5/2011 إن قصة هذا الألبوم الغنائي بدأت قبل بضعة أسابيع بمبادرة عضو الكنيست العربي (أيوب القرا) من حزب الليكود المعروف بتصريحاته اليمينية المتطرفة المعارضة لقيام دولة فلسطينية والمؤيدة لتوسيع الاستيطان. ومن المعروف أن (القرا) يقيم علاقات مع معارضين من سورية منذ فترة طويلة، وأنه في إحدى المحادثات معهم عبر المعارضون عن إعجابهم بأغنية (زنغا زنغا) التي أنتجها الموسيقي الإسرائيلي نوري ألوش والمستوحاة من خطاب للعقيد القذافي.

  مما تقدم يمكننا القول إن عمليات الإصلاح والتغيير في الدول العربية كافة، غدت اليوم أكثر إلحاحاً وغير قابلة للتأجيل أو التسويف، لأننا في مرحلة جد خطيرة، فدعوات التقسيم والدعوات العنصرية والطائفية والقبلية قد ظهرت في أكثر من دولة، وما على الجميع حكاماً ومحكومين إلا الهدوء في التعاطي مع متطلبات المرحلة المقبلة، مع ضرورة الحسم مع كل من يحاول إثارة نعرات طائفية أوعنصرية من شأنها أن تشحن الأجواء بين أبناء البلد الواحد، وتجعله منقسماً على نفسه بعد مئات السنوات من التآخي والألفة والعيش المشترك، لأنهم بذلك يفوتون الفرصة على أولئك الذين يحاولون النفخ في نار الفتنة، كما أن عليهم أن يأخذوا على أيدي قصيري النظر والمتهورين (بغضّ النظر عن حماسهم وإخلاصهم)، ممن يمكن أن ينجرّ إلى وسائل وأساليب تؤدي إلى تأجيج المشاعر العنصرية والمذهبية، وإلى تمزيق نسيج المجتمع الواحد، فالوطن ملاذ الجميع وأبقى من الجميع.

العدد 1105 - 01/5/2024