من الصحافة العربية العدد 607

 

المهاجرون من الأحزاب

تعقيباً على مقالة نصري الصايغ بعنوان (إلى الشيوعيين واليساريين والقوميين.. عودوا إلى أحزابكم)، نرى أنه من الواجب الالتفات إلى حالة (الحزب القومي) تحديداً، لصلة المقالة بمبادرة القوميين إلى التوحد.

أصاب الكاتب في عقد مقارنة بين صنفين من أحزاب لبنان: الأحزاب العقائدية والأحزاب الطائفية؛ فبعض العقائدية راهناً (خواء) و(إفلاس)، فقد نخبة مفكريه وطاقاته ففقُرت وتضاءلت غلالها، بينما الأحزاب الطائفية تغص بجماهير الأتباع بما يفيض عن حاجتها.

و(الإفلاس) في العقائدية والحشود في الطائفية مرتبطان كذلك في أن العقائدية تبني من اللحم الحي ومن بعض المساعدات الفردية والجهوية، بينما الطائفية كثيرات الآباء والأمهات والخؤول والأعمام وسلفها الصالح، وتشهد شجرة الأسرة فيها أنه متوارث من أجيال وقرون.

وأتفق مع توصيف أن الأحزاب العقائدية مأزومة ومنسية ومهمشة، لكنها ليست (خلواً) من كفاءاتها، إنما فقدت الكثير منها، ولا يتوقف دورها على التفرج على (أحزاب الطوائف)، طمعاً بمقعد نيابي، أو طمعاً بترشح على لائحتها، لا يشمل كل الأحزاب العقائدية القومية والشيوعية وما قاربها، فالمقعد الوزاري او النيابي، لا يقدّم بل يؤخر، ويهين الحزب العقائدي وتاريخه الصراعي أيضاً.

إذا كان صحيحاً أن (الرفيق الحزبي اليوم، يمارس الكسل الحزبي، ويكتفي براحة ضمير، تبرّر له عدم خروجه من الصف…)، وأن الأحزاب العقائدية (هي أحزاب فقيرة راهناً بالمنتجين)، وأنها (خواء). فإننا نسأل هل استطاعت تلك المؤسسات الحزبية التي عطلت البناء الثقافي الفكري، وهي بطبيعتها مسؤولة عن توظيف إمكانات الأفراد ومواهبهم في خدمة الغاية الحزبية والوطنية وعن التنسيق بين فروقهم الفردية وشروط العمل الحزبي المنظم والمنتج؟ أين الندوة الفكرية؟ وأين المجلة؟ وأين الجريدة؟ بل أين المدرسة الحزبية التي أهّلت كتاباً وشعراء وإعلاميين كباراً في النصف الثاني من القرن العشرين؟

إن تطفيش الكفاءات ليس بسبب نزق الحزبيين الثائرين، بل بسبب سياسة التسطيح الفكري والعقدي التي تعتمدها المؤسسات الحزبية المعنية، فتؤدي إلى تهافت العطاء الفكري وتؤسس لضعف الثقافة الحزبية، والتجربة تؤكد أن سياسة التسطيح لا تنجح، كالسياسة التي تؤسس لنهج التبعية والتفرج، أي لنهج الظل التابع، إلا إذا تركزت على تقديس الأفراد والدوران في فلكهم، وأصبحوا قضية الحزب واعتبار الحزب بعض ميراثهم. فماذا يطلب الشباب غير الحضور والفعل وتولي المسؤولية، وهذا حقهم، كذلك هو واجب في الوقت نفسه على مؤسستهم الحزبية. أليس أولى بالمؤسسات الحزبية أن تدرس أسباب هجرة الكفاءات منها وكيفية إصلاح واقعها لتستعيدهم؟

إن شرط وجود أحزاب علمانية فاعلة ذات بنية ثقافية علمانية ملتزمة متعلق لزوماً بحزبيين متنورين بثقافة عالية واستعداد ثوري ضد خمول حزبهم وتبعيته.

إذا لم توفر العقيدة والفهم والثقافة هذا الاقتناع الضروري للثوار ليتماسك روح التغيير فيهم، فيعجزون عند أول صعوبة أو مواجهة، فأي حزب رخو وأي تغيير وإصلاح يؤمل منه في نظام طائفي إقطاعي لبناني مرن في جموده وراسخ في ثباته؟

وإذ أتبنى دعوة الكاتب عندما دعا الحزبيين بصيغة الأمر: (عودوا إلى أحزابكم، بثقافة البناء والعمل، وليس بنزعة الانقلاب والثأر). نرى دعوة لها موازية وأوجب للأحزاب العقائدية، قومية وشيوعية وغيرهما، أن تعمل، وليس أن تعود، فلا عودة في النسق الإنساني، لتنكُّب المهمة الطبيعية الأولى، وهي نشر عقيدتها بالإصلاح وتحقيق غايتها برفع مستوى إنساننا ومجتمعنا وحماية وجودهما وحقوقهما.

منصور عازار

(السفير)، 13/12/2013

 

المنطق الغائب والصدق

الثورة المصرية قامت لإسقاط الحكم القديم وبناء حكم جديد يقوم على فلسفة جديدة تنعكس في دستور يضعه الذين قاموا بالثورة، فهل تحقق ذلك؟ بعض أعضاء لجنة الخمسين أعلنوا أن كلمة (حكومة مدنية) في ديباجة الدستور، تعني (حكم مدني)، يعرفون الفارق بينهما ويخدعون الشعب.

فالحكم يعنى النظام الذي يحكم البلد وفلسفته ومبادئه وقوانينه ومؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية والرقابية. الخ ويستمد الحكم شرعيته واستمراره من سلطة الشعب القادر على إسقاطه، كما حدث في ثورة 25 يناير ،2011 وتم إسقاط حكم مبارك، وفى ثورة 30 يونيو 2013 وتم إسقاط حكم مرسي، أما الحكومة فهي المؤسسة التنفيذية فقط، فإن أخطأت يتم تغييرها بقرار برلماني. وقد استبدل الحكم المدني بالحكومة المدنية لماذا؟ ولماذا استبدل التمثيل (العادل) للنساء بالتمثيل (المناسب)؟ الفارق بينهما كبير. فالتمثيل العادل للنساء المصريات 50% على الأقل حسب عددهن في المجتمع، والتمثيل العادل للأقباط 14% حسب عددهم في مصر.

تملقت لجنة لخمسين (يمين ويسار) الحزب السلفي الديني (ليقف معها ضد الإخوان) فقررت التضحية بحقوق النساء والأقباط، وضحت أيضاً بحقوق الشباب والفقراء لإرضاء القوى الطبقية وكبار السن. ومشروع الدستور ينطوي على تناقضات ومراوغات لتمرير فلسفة حكم قديم تحت اسم النظام الثوري الجديد. وتغلبت مصالح القلة المستريحة على الأغلبية الساحقة المسحوقة، تحت عبارات إنشائية مثل: المساواة بين المصريين بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة وغيرها، ثم جاءت المواد الأخرى لتنطوي على التفرقة الطبقية والجنسية والازدواجية القائمة على الفصل بين العام والخاص أو بين الدول والعائلة؟

المساواة بين الرجال والنساء في الحياة العامة فقط لماذا؟ والأسرة أو الحياة الخاصة هي أساس المجتمع والحجر الأساسي للدولة؟ كيف تكون مؤسسة الأسرة دينية في الدولة المدنية؟ كيف يتناقض العام مع الخاص؟ هل يقوم بناء الدولة على الهواء أم على الحجر الأساسي، أي الأسرة؟

ديباجة الدستور تسرد تاريخ مصر من منظور طبقي أبوي، تسوق بطولات فردية لبعض الرؤساء ورجالهم، تتجاهل دور النساء والشعب الفقير في الثورات المتعاقبة التي غيرت مجرى التاريخ، بما فيها الثورات الأخيرة (2011 و2013)، ضحوا بدمائهم ودمائهن من أجل الوطن فلم يأخذوا الا الموت والفقر والقهر؟ وجاءت كلمة المواطنات (مرة واحدة) على استحياء في مؤخرة ديباجة من خمسمائة كلمة، قام بتأليفها خمسون رجلاً من الوجهاء، وخمس نساء من الوجيهات، احتل (أغلبهم) المناصب المهمة في الحكم القديم، وإن اختلفت الكوادر والدرجات، لم يدفعوا ثمن الثورات، لا من عرقهم ودمهم أو مالهم وعيالهم، عاشوا آمنين مستفيدين من الحكم وإن عارضوه، تحت اسم المعارضة الشرعية، وغيرهم ممن قاموا بالثورة، ينزفون الدم في السجون، أو يعانون الفقر والغربة في المنافي. لم يغير الدستور فلسفة الحكم الرأسمالي الأبوي الديني القائم على الازدواجية القانونية والأخلاقية في الدولة والأسرة، لم يغير الدستور قانون الحصانة المعكوس، الذي يحصن صاحب القوة ضد الضعفاء، يحصن الرئيس ضد المرؤوس في الدولة، ويحصن الرجل ضد المرأة في العائلة، ويفصل بين المسؤولية والقوة، كلما ارتفعت القوة انخفضت المسؤولية، فلسفة كبش الفداء، يعاقبون الضحية ويطلقون سراح الجاني صاحب القوة والشرف.

ولم يغير الدستور الفلسفة الاقتصادية للحكم، التي أدت إلى الفساد المتوحش والفقر المدقع والبطالة الخطيرة، نتائج سياسة السادات ومبارك القائمة على الانفتاح وسوق الربح والغش والرأسمالية الشرسة والخصخصة والمعونة والتبعية المهينة، إلى حد الاستعانة بالقطاع الخاص الأجنبي لكنس الشوارع وتولي خدمات التعليم والصحة والثقافة والرياضة، مما أدى إلى تراكم القمامة وتدهور التعليم والصحة والثقافة والرياضة واغتصاب الأطفال وتحجيب البنات. ولم تحذف المادة الثانية التي أقحمها السادات في الدستور منذ أربعين عاماً ليدعم التيارات السلفية الدينية والإخوان المسلمين، تمهيداً لتقسيم مصر طائفياً، خدمة للمصالح الإسرائيلية الأمريكية الأوربية. هذه المادة تؤكد الحكم الديني وتتناقض جوهرياً مع مدنية الحكم، وهكذا غاب عن الدستور المنطق والصدق؟

نوال السعداوي

(الحوار المتمدن)11،/12/2013 

العدد 1105 - 01/5/2024