تكريماً لحضارة بهرت العالم احتفالات ألفية تأسيس غرناطة الأندلسية

تحتفل مدينة غرناطة الأندلسية الأثرية، الواقعة على بعد 267 ميلاً جنوب العاصمة الإسبانية (مدريد)، العام الجاري، بذكرى مرور ألف عام على تأسيسها مدينة إسلامية. وقد اتخذت حكومة الحكم الذاتي بالأندلس قرارًا  بجعل هذه المناسبة فرصة لإحياء العلاقات العربية الإسلامية – الأوربية، واعتبار هذه الاحتفالية جسرًا للتواصل الحضاري بين المسلمين والعالم الغربي، وذلك قبل أربع سنوات من حلول ذكرى ألفية المدينة. ويوصف هذا القرار ببعده السياسي والثقافي منعطفًا حقيقيًا في تاريخ غرناطة وإسبانيا بل وربما الغرب، لأنها تجعل من الحضارة العربية الإسلامية انطلاقتها التاريخية.

انطلاقة فعاليات الاحتفالية هذه كانت بداية شهر أيّار(مايو) الماضي، إذ أقيمت بهذه المناسبة معارض ومهرجانات وحفلات موسيقية وحفلات في شوارع المدينة. ومن أبرز هذه المهرجانات واحدٌ بعنوان (ألف وجه لغرناطة)، بينما يستمر آخر بعنوان (المملكة القديمة – رينو دي غرناطة)، حتى شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل، ويصف المهرجان المملكة الموروية (العربية) في غرناطة، حينما غدت آخر معاقل العرب والمسلمين في شبه جزيرة إيبرية، وبعد أن تلألأت حضارتها نحو مئتي سنة، انطفأت مشاعلها وظهرت مبانيها دون حياة. وتختتم الأجواء الاحتفالية بمهرجان في الشوارع بعنوان (الألفية في الشوارع)، ويقام خلال الفترة من11 إلى13 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.

ألف عام إذًا مرَّتْ على ظهور وبزوغ هذه المدينة الفيحاء كحاضرة من الحواضر التاريخية، ومعقل من معاقل العلم والأدب والعمران والحضارة والازدهار في العصر الوسيط.

تشير المصادر التاريخية إلى أن مدينة غرناطة من المدن العريقة في القدم، وإلى أن تاريخها يرجع إلى ما قبل التقويم الميلادي، وأنه تعاقبت عليها حضارات قديمة متعددة على امتداد التاريخ. إلا أنّ المؤرخين الثقاة يؤكّدون أنّها اكتسبت شخصيتها التاريخية، والحضارية الحقيقية الأصيلة منذ سنة 1013م خاصّة مع مملكة (بني زيري)، كما أنّها عرفت مرحلة أخرى من التأّلق والإشعاع والازدهار مع (بني الأحمر) بدءًا من عام 1238م، حين طفق الإشعاع الحضاري للمدينة ينتشر في العالم أجمع.

الاحتفالات بهذه الألفية حتى وإن كانت تتمّ استذكارًا واستحضارًا وتكريمًا لمختلف الحضارات التي تعاقبت على هذه المدينة منذ العهد الرّوماني البائد بها إلى اليوم، إلا أنّه يتمّ خلالها تسليط الأضواء الكاشفة على وجه الخصوص بنصيب أوفر على حقبة الوجود العربي، والأمازيغي (البربري) الإسلامي بها. ذلك أنّه على الرّغم من تعاقب الحضارات المتعددة والمختلفة على هذه المدينة، فإنّ الغلبة وقصب السّبق والإشعاع الأبرز والأكثر شهرة وازدهارًا وأهمية وتألّقًا يظلّ ل (قصر الحمراء) الذي جعلها تتبوأ منزلة مرموقة، ومكانة عالمية إلى جانب باقي المدن والحواضر الأندلسية الأخرى في مراتب التاريخ، وذلك بحكم احتضانها لهذه المعلمة الحضارية والعمرانية الفريدة التي ليس لها نظير.

يعدّ قصر الحمراء في غرناطة معلمة حضارية طبّقت شهرتها الآفاق، وهو منذ عام 1984 مدرج ضمن (مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو). وهو يعدُّ أيضًا واحدًا من أروع القصور في تاريخ العمارة الإسلامية، ومن أعظم وأروع الآثار الأندلسية الباقية، كما أنه يعدّ من أبدع الآثار الإسلامية حتى اليوم بما حواه من بدائع الصنع والفن، وقد زيّن صنّاع غرناطة المهرة القصر بأبدع نماذج لا تستطيع البشرية الإتيان بمثله.

ويعود تاريخ بناء القصر إلى فترة حكم (بني الأحمر) بغرناطة (القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي)، فقد أخذوا يبحثون عن مكان مناسب يوفر لهم القوة والمنعة، فاستقر بهم المطاف عند موقع (الحمراء) في الشمال الشرقي من غرناطة، وفي هذا المكان المرتفع وُضع أساس حصنهم الجديد (قصبة الحمراء)، واتخذ (بنو الأحمر) من هذا القصر مركزًا لملكهم، وأنشؤوا فيه عددًا من الأبراج المنيعة، وأقاموا سورًا ضخمًا يمتد حتى مستوى الهضبة. ومن المرجح أن سبب تسمية (الحمراء) هو لون حجارتها الضارب للحمرة، و(الحمراء) عبارة عن مجموعة أبنية محاطة بأسوار تقع على ربوة عالية تسمى (السبيكة)، في الجانب الشمالي الشرقي من مدينة غرناطة.

وهذه الأبنية على ثلاثة أقسام: القسم العسكري؛ ويقع شمال شرقي القصر، وهو عبارة عن قلعة تحرس (الحمراء) ولها برجان عظيمان، ثم القصر الملكي في الوسط، ثم (الحمراء العليا) المخصصة للخدم.

ويعدُّ (باب الشريعة) المدخل الرئيسي للقصر اليوم، وقد نقش على قوسه سطران كتب فيهما بخط أندلسي متشابك العبارات التالية: (أمر ببناء هذا الباب، المسمى باب الشريعة، أسعد الله به شريعة الإسلام، كما جعله فخرًا باقيًا على الأيام، مولانا أمير المسلمين، السلطان المجاهد العادل أبو الحجاج يوسف، ابن مولانا السلطان المجاهد المقدس، أبي الوليد بن نصر، كافي الله في الإسلام صنائعه الزاكية، وتقبل أعماله الجهادية، فتيسر ذلك في شهر المولد العظيم من عام تسعة وأربعين وسبعمئة، جعله الله عزة وافية وكتبة في الأعمال الصالحة الباقية).

وبمحاذاة قصر الحمراء توجد حدائق (جنّة العريف)، وقد استقرّت هذه الكلمة في اللغة الإسبانية باسم (الأريفي) بمعنى (العريف أو المهندس المعماري أو الخبير في شؤون البناء والتشييد والإعمار). وبهذه المدينة كذلك أحياء ومناطق وضواح وأرباض شهيرة مثل حيّ (البشرات) الذي عرف (ثورة الموريسكييّن) الذين انتفضوا ضدّ الظلم والعنت، وانتهاك العهود والمواثيق، وحيّ (البيّازين) (مربّي طائر الباز ومروضيه وبائعيه)، وهو اليوم من أجمل الأحياء العتيقة في غرناطة.

العدد 1104 - 24/4/2024