«الإمبراطور» كبرياء الإثم المعتقة

حين تملَّى العقل في مرآة الوجود، عرف الغرور وخيلاء الزهو، فكانت الخطيئة الأولى: كبرياء قوامها الجهل المفرط.. كبرياء تُسوِّل للنفس ضراوة التشبث بكل وهم زائف.. كبرياء تسوط الحب بعنف الكراهية والحقد، فتحرفه عن درب المعراج العرفاني.. كبرياء تسقط الغفران والتسامح وتسمي المنافق بطلاً، والكاذب أميناً، والداعر أنيساً وخليلاً.. هي الخطيئة الأولى التي تسبق القتل والسرقة في النواهي والتحريمات لأنها تمهد لهما، مذ ثبتت الجريمة الأولى على جدار الدهر، ولون دم القتيل الشهيد جبل قاسيون، فزهت حاضنته بدم الشقيق، وغدت دمشق كعبة المؤمنين وصليب المارقين، وخلاص التائهين في طرقات الشقاء..  

تتكئ عقيدة القوة والسطوة على مبدأ التفوق، الذي يحتوي أحلام الإنسان الخارق أو منظومة الصفوة المختارة، وهي تقلبات الكبرياء الصلفة وغرور الاعتداد بالخطيئة الأولى. وأس النزعات العنصرية تجاه الشعوب لإعادة تقسيمها وفق الطموح التوسعي للأقوياء، تحت غطاء الحروب العرقية والدينية. وهو ملمح نتلمسه بوضوح في الفيلم الأمريكي الإمبراطور (Emperor) لمخرجه بيتر ويبر، والمنتج في العام الماضي، والذي أكد الحرص الاستعماري المتجدد على توطيد الإذلال الجمعي عند شعوب الأمم الواقعة تحت هيمنتهم.

يقدم الفيلم تصوراً عن هواجس القادة الأمريكان في إثبات تورط الإمبراطور الياباني هيرو هيتو في قصف ميناء بيرل هاربر الأمريكي إبان الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من هزيمة لليابان وكسر لإرادة المحاربين القدماء العتيدة. وتبدو القصة أشبه بمحاولة إذلال الشعب عبر إدانة الإمبراطور، الذي هو ظل الله على الأرض، كما حصل فعلياً عند إعدام صدام حسين في وقفة عيد الأضحى عقب غزو العراق، وبالتالي كسر إرادة الشعب العراقي عبر إذلال رمز الدولة العراقية. وفي كلا الحالتين هناك إذكاء لنار الخطيئة الأولى، كبرياء الإثم حين تتعتق في النفوس المظلمة. 

يكلف الجنرال العام للجيوش الأمريكية في اليابان أحد ضباطه بمتابعة قضية إثبات تورط الإمبراطور، لإعدامه مع المقربين منه تمهيداً لإعادة إعمار اليابان عقب دمار الحرب، وفقاً للنموذج الأمريكي الاستهلاكي. وتتوالى المحاولات لإثبات الإدانة، ولكن يتكشف أن الرعية تقدس إمبراطورها باعتباره رمزاً لنقائها القومي والضامن الأوثق لتماسكها. وبالمقابل يثبت الإمبراطور جدارته باللقب كوصي يحرص على افتداء رعيته، حين يعرض على الجنرال تحمل كامل المسؤولية مقابل عدم تجريم الشعب وتطويقه بتبعات الإدانة. وهو موقف يضع الجنرال في مسار فكاهي يسبغ طابع الهزلية على محاولات إثبات الإدانة. وبالتالي يظهره راعي بقر سوقي في حضرة إمبراطور متأنق مهزوم. وهي صيرورة اللعبة الدولية المعاصرة في استعراض القوى وإعادة بناء التحالفات وفقاً لتوافق المطامع وما يسمى بالمصالح.

تساق الشعوب إلى النحر تحت مسميات شتى، تتلطى وراء عقيدة الغرور والتفوق، مما يجعل النصر والهزيمة رهناً بقوة الإيمان وشجاعة التمسك بحق الكرامة والوجود. الأمر الذي يجعل المعارك شرسة جداً، وخاصة حين تتدخل قوى المكر والضلال لتشويه المقومات المألوفة لقضايا النضال العادل، وحرفها عن مضامينها الصحيحة. فتغدو الحروب أقرب إلى التصفيات العرقية والإبادة الطائفية والدينية، لتعلو قيم أخلاقية هجينة تحكم قيادة العقول الضعيفة، وتسهل انزلاق الأمم والأفراد نحو سوق العبودية العام. وهي فكرة شعب الله المختار لقيادة العالم بأسره تحت شعارات التقدم والحضارة المدعمة بالحرية والديمقراطية.

العدد 1104 - 24/4/2024