المعركة الأخيرة لأردوغان

ظهر أردوغان، بداية عام 2013 واحداً من أقوى قادة المنطقة، وبدا أن دعمه للمعارضة السورية سيجعل تركيا تفوز بدور قيادي في منطقة الشرق الأوسط التي يُعاد تشكيلها، كما أن أداءه في المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني جعله يحظى بالثناء والإطراء، عندما توصلت تلك المفاوضات في شهر آذار 2013 إلى إعلان وقف إطلاق النار.. ولكن بعد ذلك بشهرين فقط، بدأت حظوظ أردوغان بالتعثُّر. ففي شهر أيار، استهدف هجوم  بواسطة سيارتين مفخختين بلدة الريحانية التركية، وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من معبر باب الهوى على الحدود مع سورية، موقعاً عشرات الضحايا بين المدنيين. وتمثلت عواقب هذا الهجوم في الكشف عن هشاشة الوضع الأمني في هذه المنطقة الحدودية بين تركيا وسورية التي تضم مزيجاً ديموغرافياً مختلطاً من اللاجئين السوريين والسكان الذين هم من أصول سورية والمتعاطفين تاريخياً مع الحكومة السورية.

وبعد ذلك، وقعت احتجاجات حديقة غيزي، حيث احتج عدد من دعاة حماية البيئة ضد عملية إعادة تطوير رقعة خضراء من أجل التوسع وإعادة التطوير العمراني، وسرعان ما تطورت تلك الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة استمرت لفترة طويلة بين المواطنين الأتراك من تيارات سياسية مختلفة وبين حكومة أردوغان. وبعد أسابيع من الاضطراب، جرى إلغاء مشروع تطوير الحديقة.. بيد أن تلك الاحتجاجات كشفت عن وجه جديد لأردوغان، وجه الطاغية الدموي الذي لا يردعه شيء في سبيل الحفاظ على سلطته.

وأتت عملية (الرشوة الكبيرة) التي نفّذها قسم مكافحة الفساد المالي في الشرطة التركية، لتسلّط الضوء على الفساد (المقنّن) أو (البنيوي) في تركيا، ولتعمّق جراح أردوغان السياسية.

أبعاد الفساد (المقنن) في تركيا

بالرغم من أن العديد من التقارير تحدثت عن الفساد البنيوي، أو (المقنن) في تركيا؛ غير أن تفجّر ثلاث قضايا في وقت واحد، وقيام أجهزة الشرطة بالقبض على المتهمين فجر يوم السابع عشر من كانون الأول ،2013 وارتباط القضية بذراعي الدولة السياسي والاقتصادي، في أزمة تعد الأكبر خلال حكم حزب العدالة والتنمية، شكل تحدياً غير مسبوق للحكومة التركية، خصوصاً أن هذه الفضائح جاءت قبل ثلاثة استحقاقات انتخابية، تتمثل في الانتخابات البلدية في آذار ،2014 والرئاسية في آب من العام ذاته، والبرلمانية في عام 2015.

سياق الحدث شكل مفاجأة لأردوغان وشركائه في الحكم، لأنه جاء في إطار الاستعداد لضمان السيطرة على مفاصل الدولة، بالتخلص من (الشركاء القدامى) من حركة فتح الله غولن، المعروفة ب(الخدمة) أو Hizmet، وهي استراتيجية انتُهجت بعد أن تخلصا معاً (غولن – أردوغان) من (دولة الوصاية العسكرية)، ليتفجر الصراع بعد ذلك بين جناحَيْ الحركة الإسلامية التركية، على خلفية العديد من القضايا، وعلى رأسها ما تسرب عن وجود وثيقة لمجلس الأمن القومي، تعود للعام ،2004 تشير إلى حركة (الخدمة) باعتبارها تمثل تهديداً للأمن القومي التركي، وكذلك بعد قيام النيابة العامة بمحاولة استدعاء مدير الاستخبارات التركية هاكان فيدان للتحقيق معه في قضايا تتعلق بحزب العمال الكردستاني.

بيد أن التطور الذي أفضى إلى وصول حالة التوتر إلى مرحلة (الفراق الأخير) تعلقت بمحاولة أردوغان التضييق على حركة الخدمة في بؤر ومراكز (التنشئة والتجنيد)، وذلك حينما سعى إلى إلغاء (المدارس التحضيرية) الثانوية التي تسيطر الحركة على ما يناهز 25 في المئة منها، وهي العملية التي سبقتها عمليات إقالة وإبعاد ممنهجة لأنصار Hizmet من العديد من مؤسسات الدولة، الأمر الذي أدى إلى انتقال المواجهة إلى العلن، مصحوبة بصخب إعلامي وتوتر سياسي، بسبب تغلغل أنصار حركة (المللي جورش) التي نشأ فيها أردوغان، من ناحية، وحركة الخدمة التي يقودها غولن من ناحية أخرى، في العديد من مؤسسات الدولة.

ولأن أردوغان لا يتورع عن خوض المعارك السياسية، فقد اتجه بعد تفجر قضايا الفساد الأخيرة إلى تحميل جماعة الخدمة المسؤولية عنها، واتهمها بالتآمر مع جهات خارجية للنيل من الإنجازات التي حققتها تركيا بقيادته، وذلك تزامناً مع إقالة العشرات من قيادة أجهزة الشرطة في أغلب المدن التركية، وإبعاد المدعي العام الذي تولى التحقيق في القضية منذ أشهر. كما بدأ العمل على تغيير بعض مواد القانون، بما يُلّزِم المدعي العام بإعلام المحافظ أو المسؤول الإداري في البلديات بالتحقيقات الجارية، معللاً ذلك بالقول إنه لن يسمح بوجود (دولة داخل الدولة).

ومع ذلك فإن هذا لم يحل دون حلول (لحظة الحقيقة) التي كشفت عن أن العديد من معارضي أردوغان لم يكن ينقصهم إلا الظرف السياسي المناسب للكشف عن الملفات وقضايا الفساد التي تورط فيها، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر، فقد اتجهت وسائل الإعلام الصحفية والفضائية، فضلاً عن أحزاب المعارضة؛ إلى الكشف عن تفاصيل العديد من قضايا الفساد التي لا ترتبط فحسب بتورط عدد كبير من المقربين من أردوغان في قضايا تتعلق بمنح امتيازات ومناقصات عقارية، أو انتهاك للعقوبات الدولية المفروضة على إيران، أو عمليات غسيل أموال في تركيا، أو منح الجنسية لمواطنين أجانب لا تنطبق عليهم اشتراطات منح الجنسية، وإنما تتعلق برئيس الوزراء التركي ذاته.

كما قام المدعي العام الجديد في القضية بإصدار أمر اعتقال جديد لأكثر من 30 متهماً، من بينهم بلال، نجل أردوغان ، وذلك للاشتباه في تورطهم جميعاً في التلاعب والتزوير والفساد في 28 مناقصة تصل قيمتها إلى نحو 100 مليار دولار.

الوقفة الأخيرة لحزب العدالة والتنمية

إن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً متماسكاً أيديولوجياً. فهو أقرب إلى تجمّع قوى يجمعها العداء لقيم أتاتورك العلمانية وحكم العسكر. لذا وجدت القوى الليبرالية وأصحاب الطرق الصوفية والفئات المهمّشة اقتصادياً فرصتها للانقضاض على هذه القيم والانتقام من العسكر، عندما ساهمت في إيصال حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، وعملت على تعزيز سلطته في الفترة المنصرمة. إلا أن النهج الأحادي والخطاب المتشدد دينياً الذي اتبعه أردوغان، وخصوصاً بعد انتخابات ،2011 جعلت معظم حلفائه ينفضّون من حوله، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، هي الصدام مع جماعة فتح الله غولن المتغلغلة  في أجهزة الدولة. ثم إن بقاء الحزب في الحكم مدة طويلة خلق توترات وصراعات داخلية بين أردوغان من جهة، وكل من الرئيس عبدالله غول ونائب رئيس الحكومة بولنت أرينتش من جهة أخرى. وإذا لم تتم إعادة هيكلة الحزب جذرياً، وهو الأمر غير الممكن منطقياً، بسبب تصدع بناء الحزب نتيجة الأزمات التي أصابت تركيا أخيراً، وخصوصاً تداعيات الأزمة السورية على الداخل التركي، فإن مصير هذا الحزب لن يكون أفضل من مصير (حزب الوطن الأم) بزعامة تورغوت أوزال الذي حكم تركيا، لكنه انتهى إلى التفكك والتلاشي نهائياً من الحياة السياسية بعد وفاة مؤسّسه.

أيضاً، لا يمكن أن نُغفِل البعد الخارجي في الأزمات التي تعصف بتركيا، والتي قد تُشكل المقتل لحزب العدالة والتنمية ولأردوغان، بعد اتهامه للولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقف مع اللوبي اليهودي وراء فضيحة الفساد من أجل الانتقام منه، بسبب حادثة (سفينة مرمرة) وسعيه لحل القضية الكردية. ولعل اعتبار أردوغان أن المستهدف هو دور تركيا وموقعها في خريطة المنطقة المقبلة سوف يُدخله في مواجهة شرسة مع واشنطن التي أبدت انزعاجاً كبيراً من الاتهامات المتكررة التي وجهها أردوغان لها في الأونة الأخيرة، وخصوصاً بعد محاولاته لعرقلة الخطط الأمريكية لتسوية العديد من الملفات الإقليمية. ويبدو أن عدم قدرة أردوغان على الانسجام مع اتجاهات الرياح الجديدة التي بدأت بالهبوب على المنطقة، ستجعل مهمته صعبة ومفتوحة على احتمالات مُبهمة.

نظر أردوغان إلى السياسة بوصفها قادرة على خلط المفاهيم وصُنع أشياء قد لا تخطر على بال الشيطان، وكانت بالنسبة له متعة في مستوى متعة لعبة القمار أو إدمان المخدرات، لأن جانب المغامرة والانتشاء واحد في الحالتين، دون الأخذ بالحسبان الأذى الذي قد يلحقه بالغير، فكل شيء يهون في سبيل المجد والسلطة. ورغم أن (السياسة قدرنا) حسب مقولة نابليون، فإن أردوغان قرر أن تكون سياسته الوجه القاتم للقدر، بدلاً أن تكون رسالة الفرح للبشر.

العدد 1104 - 24/4/2024