الصراع على أوكرانيا

تعد أوكرانيا إحدى أهم البلدان استراتيجياً، في الصراع الدائر بين القوى العظمى حالياً. فهي تُعتبر بالنسبة لروسيا بلداً محورياً كي تتنامى قوتها على المسرح العالمي، وتزداد قدرتها على تحدي الغرب في عُقرِ داره، وتحُد من سيطرة القطب الأوحد وشركائه.

ومن هذا المنطلق دعمت أوربا (الثورة البرتقالية) في أوكرانيا عام 2004 بهدف وضع حدّ لما اعتبرته الهيمنة الروسية على أوكرانيا، وتوجيّه ضربة قاضية لأحلام موسكو (الإمبراطورية). ومن أجل ذلك، دعم الغرب الأقاليم الغربية (الثائرة) على روسيا، والمتعجّلة لتحقيق فكرة الاندماج بالاتحاد الأوربي، وتغاضى عن الأقاليم الشرقية التي تُشاطر الروس لغتهم وطريقة تفكيرهم وميولهم، وبعبارة أخرى تغاضى الغرب عن قسم كبير من المواطنين الأوكران الذين يتقاسمون مع الروس وحدة الهدف والمصير.

لكن الرياح الأوكرانية جرت بما لا تشتهي السفن الغربية، وفاز فيكتور يانوكوفيتش في الانتخابات التي جرت في 2 شباط 2010 على فيكتور يوشينكو زعيم (الثورة البرتقالية) وأميرتها يوليا توموتشينكو. وبعد أن قال الأوكران كلمتهم، أدرك الغرب أن سياسة تصادمية مع أوكرانيا قد لا تكون ذات جدوى، فاعتمد سياسة ظاهرها التقارب، وباطنها التماس أساليب ملتوية تضع العراقيل أمامها، ولهذا (باركت) أمريكا نجاح يانوكوفيتش في الانتخابات، ومثل ذلك صنع الاتحاد الأوربي، وانتهزوا الفرصة الملائمة ليلقوا جزرة مشروع (الشراكة الشرقية)، الذي أدى رفضه من جانب الحكومة الأوكرانية إلى نشوب احتجاجات الأوكرانيين الموالين للاندماج بالغرب.

معركة ميونخ

قد تكون (معركة ميونخ) الكلامية التي نشبت بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، حول أسباب الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أوكرانيا، خير دليل على مدى عمق الأزمة السياسية التي تُخّيم على سماء كييف منذ أكثر من شهرين.

فقد اتهم لافروف الدول الأوربية بـ(تشجيع المتظاهرين في أوكرانيا على اللجوء إلى العنف)، وسأل: (هل يرتبط التحريض على الاحتجاجات العنيفة ومهاجمة الشرطة وحرق مبانٍ حكومية بالديموقراطية؟ ولماذا يشجع سياسيون أوربيون هذه الأعمال، فيما لا يترددون في معاقبة أي انتهاك للقانون بشدة في بلادهم؟).

وردّ كيري على هذا الاتهام، فأكد دعم واشنطن المتظاهرين الأوكرانيين، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يقفان إلى جانب الأوكرانيين في (معركتهم) للتقارب مع أوربا، وقال: (يناضل هؤلاء لتحقيق التقارب مع شركاء سيساعدونهم في تحقيق تطلعاتهم، ويعتبرون أن مستقبلهم لا يعتمد على دولة واحدة)، في إشارة إلى روسيا. وحضَّ موسكو على (عدم اعتبار الأحداث في أوكرانيا تهديداً لمصالحها). معترفاً في الوقت نفسه بوجود (عناصر مشاغبة في شوارع كييف)، لكنه استدرك قائلاً: (إن الغالبية الساحقة من الأوكرانيين تريد العيش بحرية في بلد آمن ومزدهر).

ولم يتأخر الرد الروسي على أقوال الوزير كيري، ولكن هذه المرة على لسان سيرغي غلازييف، مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المسؤول عن العلاقات مع أوكرانيا ، فقد اتهم الولايات المتحدة بـ(تدريب متمردين أوكرانيين داخل حرم سفارتها في كييف وتسليحهم)، وحضّ الحكومة الأوكرانية على إحباط ما أسماها (محاولة انقلاب)، مهدداً بتدخل بلاده للحفاظ على أمن الجمهورية السوفييتية السابقة. وقال غلازييف: (ينتهك التدخل الأمريكي معاهدة أبرمتها واشنطن وموسكو عام 1994 لضمان أمن أوكرانيا وسيادتها، بعدما تخلصت كييف من ترسانتها النووية).

وتابع قائلاً: (تنص المعاهدة أيضاً على التزام روسيا والولايات المتحدة بالتدخل لدى نشوب صراعات في أوكرانيا)، لكنه لم يوضح التحرك الذي قد تتخذه روسيا. وكانت حركة الاحتجاج في أوكرانيا اندلعت إثر تراجع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، في تشرين الثاني ،2013 عن توقيع اتفاق (الشراكة الشرقية) مع الاتحاد الأوربي، مفضّلاً التقارب مع روسيا.

صراع القوى الكبرى على أوكرانيا

الموقع الاستراتيجي لأوكرانيا وغناها بالثروات الباطنية، إضافة إلى كونها المعبر لتمرير الغاز الروسي إلى أوربا، و إشرافها على البحر الأسود، هي الأسباب غير المباشرة للتدخلات الخارجية من وراء الستار.

الولايات المتحدة وسياسة التمدد الناعم

استغلت واشنطن المحتجين، الذين لهم بعض المطالب المحقة والحانقين على نظام الحكم، واستخدمتهم للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد كعادتها، بذريعة حماية الديمقراطيات (بدعم المعارضة التي صُنعت بأيدٍ خارجية وتسعى إلى السلطة لا أكثر) في محاولة من أمريكا لإعادة مشهد الثورة البرتقالية إلى البلاد وتقليص النفوذ الروسي، وتوسيع نفوذها السياسي، بتأليب المعارضة وتحريضها على الاحتجاج، وهو ما ظهر جلياً حين أرسلت الولايات المتحدة فكتوريا نولاند، مسؤولة الشؤون الخارجية الأمريكية، والتقت مع المحتجين في ساحة الاعتصام الرئيسية، وعبرت عن دعمهم معنوياً.

المصالح الاقتصادية لموسكو

أما روسيا فترى أوكرانيا بلداً محورياً، في تحديها لخطط الغرب، فمنذ القرن التاسع عشر خضعت أوكرانيا لحكم قياصرة موسكو، لذا ترى أنه من غير المقبول التدخل بالشؤون الداخلية لكييف وهي التي تدعم نظام الحكم فيها. كما أنها المصدر الرئيسي لتزويدها بمصادر الطاقة (فهي أكبر مستهلك للطاقة في أوربا، وتحصل على الوقود النووي من روسيا اللازم لإدارة محطة زابوريجيا النووية لتوليد الطاقة. كما أن التجارة بين كييف وموسكو هي من المصادر الأساسية لتزويد الاقتصاد الأوكراني باحتياجاته الرئيسية). ومن جهة أخرى، تُعتبر أوكرانيا المعبر الرئيسي لتمرير الغاز الروسي إلى أوربا (وهو ما يزوّد الاقتصاد الروسي بالنقد الأجنبي اللازم لتطوير الاقتصاد الداخلي الروسي ويقصر مسافات النقل ويخفّض تكاليفه الباهظة)، إضافة إلى اعتبارها المنفذ الروسي على البحر الأسود الذي يستخدمه أسطولها البحري في مدينة سيباستوبول المهمة اقتصادياً وعسكرياً والتي تضم أسطول البحر الأسود الروسي وفق اتفاق تأجير بين الدولتين، وهو ما لن يفرط به الكريملين بسهولة.

مشكلة أوكرانيا ليست وليدة اليوم، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر القرن الماضي، يحاول الاتحاد الأوربي جذب دول أوربا الشرقية إلى مجاله الحيوي، لكن أوكرانيا كانت مستعصية دائماً، لأنها واقعة في نطلق موسكو الاستراتيجي.

لقد تذرعت أوكرانيا بقضية الأمن القومي للتملص من اتفاق الشراكة مع أوربا، فيما اقترحت روسيا عقد محادثات ثلاثية بشأن الاتفاق تكون موسكو طرفاً فيه. وأصدر رئيس الوزراء، ميكولا أزاروف، أمراً ينص على تعليق عملية التحضير لاتفاق الشراكة بهدف (ضمان الأمن القومي، وإعادة تحريك العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وتحضير السوق الداخلية لعلاقات متساوية مع الاتحاد الأوربي). وعرضت أوكرانيا، أيضاً، على موسكو والاتحاد الأوربي إنشاء لجنة ثلاثية بشأن التجارة، و(إطلاق حوار حيوي مع روسيا والأعضاء الآخرين في الاتحاد الجمركي) الذي تقوده موسكو، وهي تدعو أوكرانيا إلى الانضمام إليه منذ أشهر عدة.

وكان من تداعيات تلك التطورات خروج المعارضين إلى شوارع كييف واستقرارهم في الساحات الرئيسية حاملين أعلام الاتحاد الأوربي في تحدّ واضح لحكومة يانوكوفيتش. وقد لجأت الشرطة على فترات إلى استخدام القوة لتفريق المتظاهرين، بعد أن اعتدوا على الأملاك العامة وأثاروا الشغب في الشوارع، وهو الأمر الذي أثار غضب الأوربيين، الذين عبروا أيضاً عن أملهم بأن تتراجع كييف عن موقفها.

يُشار إلى أن برنامج (الشراكة الشرقية) أطلقه الاتحاد الأوربي عام 2009 في براغ (عاصمة جمهورية التشيك). ويهدف هذا البرنامج إلى تحقيق التكامل مع دول الاتحاد السوفيتي السابق عبر تقديم دعم لتعزيز مؤسسات السلطة والمساعدة في تطوير قطاع الأعمال، إلا أن مشروع (الشراكة الشرقية) لا يتطرق إلى إمكانية العضوية الكاملة في الاتحاد، بل يفترض تقارباً سياسياً واقتصادياً مع هذه المنظمة الإقليمية، وبضمن ذلك تسهيل نظام منح تأشيرات الدخول والتعاون في ميدان الطاقة. ويضم البرنامج إضافة إلى أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا كُلاً من أذربيجان وأرمينيا وبيلاروسيا.

العدد 1104 - 24/4/2024