حكومة المئة يوم في لبنان

تمكّن السيد تمام سلام، يوم الأحد 16 شباط ،2014 من تشكيل حكومته العتيدة بعد مخاضٍ عسير استمر نحو عشرة أشهر، شَهِّدَ خلالها لبنان هزات أمنية كبيرة نتيجة صراع المحاور في منطقة الشرق الأوسط وتداعيات الأزمة السورية التي بدأت انعكاساتها تطرق الساحة الداخلية اللبنانية بقوة وعنف.

وقبل الحديث عن الحكومة اللبنانية الجديدة قد يكون من الضروري إلقاء الضوء على الأسباب التي أدت إلى استقالة سلفه السيد نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة.

أعلن السيد نجيب ميقاتي يوم الجمعة 22 آذار 2013 استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية. وكان وراء هذه الاستقالة ثلاثة أسباب رئيسية هي:

1-  التشابك بين الأزمة السورية والوضع اللبناني الداخلي الذي بات يرزح تحت مفاعيل هذه الأزمة وتأثيراتها، فقد أصبح الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي اللبناني مهدداً، خصوصاً أن سياسة النأي بالنفس استنفدت وتآكلت وتجاوزتها الأحداث، كما لم يعد (إعلان بعبدا) كافياً لتحييد لبنان عن الحدث السوري، وهذا ما أدى إلى وضع الحكومة بين فكي كماشة: التوترات والخروق والاشتباكات الحدودية من جهة، والتوترات والمشاكل المذهبية الداخلية من الجهة المقابلة.

2- وضع حزب الله في الحكومة. نجح ميقاتي قولاً وفعلاً في إثبات أن حكومته هي حكومة ائتلافية، ونجح بمؤازرة الرئيس نبيه بري في حفظ الحد الأدنى من التوازن السياسي فيها، ولكن ميقاتي لم يقوَ على احتواء الحملة الدولية – العربية التي اشتدت ضد حزب الله في الآونة الأخيرة، سواء تلك التي أتت من أوربا وتدفع إلى تصنيفه منظمة إرهابية بضغط أمريكي استناداً إلى اتهامات صادرة عن حكومتي بلغاريا (تفجير بورغاس) وقبرص (نشاط أمني لحزب الله)، أو التي أتت من جهة دول الخليج التي فتحت، لاسيما السعودية، ملف التدخلات والأنشطة الأمنية والمخابراتية الإيرانية، وحزب الله جزء منها، في البحرين والإمارات واليمن، ويضاف إلى الاختلاف الشديد على دور حزب الله في سورية ما بين المؤيدين لهذا الدور والمعارضين له في الداخل اللبناني.

3- تبدل الموقف الدولي (الأمريكي – الأوربي) في نظرته إلى الحكومة وفي تقييمه لها، وهذا ما يفسر كيف أن استقالة ميقاتي شكلت مفاجأة، ولكن ليس صدمة، للمجتمع الدولي الذي لم يبذل جهداً لمنع حصولها ولم يُظهر اهتماماً زائداً، واكتفى بأن أخذ علماً بها. هذا التبدل يعود بشكل أساسي إلى أن حكومة ميقاتي فقدت وظيفتها السياسية والقدرة على أداء دورها ومهمتها في ثلاثة مجالات أساسية تهم المجتمع الدولي هي : حفظ الاستقرار، إجراء الانتخابات النيابية، تحييد لبنان عن الأزمة السورية، وبالتالي لم يعد لوجودها قيمة وجدوى، وتحولت بالنسبة إلى المجتمع الدولي ومحور عرب الاعتدال من (حاجة وضرورة مطلوب استمرارها) إلى عبء يجب التخلص منه.

وكانت قضية التمديد للواء أشرف ريفي المخرج الذي كان يبحث عنه ميقاتي كي يحد من خسارته السياسية ويكسب تأييداً فقده بعد الحملات التي شُنت عليه من قِبل أنصاره ومؤيديه ضمن طائفته الكريمة.

الأسباب التي أدت إلى تشكيل الحكومة الجديدة

من البديهي القول إن تشكيل الحكومة اللبنانية كان قراراً إقليمياً – دولياً، هدفه حفظ الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي في لبنان حتى تتوضّح موازين القوى الجديدة التي بدأت ملامحها بالتكوّن على الساحتين الإقليمية والدولية، وستظهر نتائجها تباعاً في أوكرانيا وسورية.

مؤشرات هذا القرار تلقفته القوتان الأساسيتان في لبنان، تيار المستقبل وحزب الله، وتراجعتا خطوة إلى الوراء. فحزب الله تنازل عن صيغة 9 – 9 – 6 التي رأى السيد حسن نصرالله أنها أحسن ما يُعرض على قوى 14 آذار. وتيار المستقبل قبل مشاركة حزب الله في الحكومة دون تحقيقه شرط الانسحاب من القتال في سورية. الأمر الذي يدل على رغبة مشتركة إيرانية سعودية، (اللاعبان الرئيسيان في الساحة اللبنانية)، في حفظ استقرار لبنان في هذه المرحلة الحساسة.

فالتقارب الإيراني – الأمريكي إضافة إلى تصاعد وتيرة التفجيرات التي طاولت المربع الأمني لحزب الله الذي كان على مدى ثلاثة عقود، قلعة أمنية وعسكرية يصعب اختراقها حتى من قبل إسرائيل، والتخّوف من انفجار الصراع المذهبي في لبنان نتيجة احتقان الشارع المناصر لقوى 14 آذار، فرض على قوى الثامن من آذار التخلي عن خيار المواجهة والتحلي بالمرونة السياسية في الداخل اللبناني.

وفي المقابل، ترى قوى 14 آذار ومن خلفها (محور الاعتدال العربي) والمجتمع الدولي أن الدفع في تشكيل الحكومة اللبنانية سيحمي لبنان من ارتدادات الأزمة السوري عليه ويُفعّل (إعلان بعبدا) ويعيد الحياة إلى سياسة (النأي بالنفس) التي ستمنع امتداد النار السورية إلى لبنان، الذي بطبيعة نسيجه الطائفي يمكن أن يشكل صاعقاً لتأجيج الصراع المذهبي في المنطقة كلها، وتكون المدخل لسحب جميع القوى اللبنانية التي تُقاتل على الساحة السورية.

الاستحقاقات التي ستتصدى الحكومة العتيدة لها

أمام الحكومة اللبنانية استحقاقان دستوريان، الأول انتخاب رئيس للجمهورية في 25 أيار المقبل، والثاني التمهيد لإقرار قانون انتخاب نيابي جديد يتوافق عليه اللبنانيون. أما المهمة الثالثة فهي متابعة تأمين الدعم الدولي سياسياً واقتصادياً ومالياً، بهدف تأمين احتياجات النازحين السوريين وتمكين الجيش من الحصول على الأسلحة التي يحتاج إليها للدفاع عن لبنان وحماية السلم الأهلي الداخلي ومكافحة الإرهاب، وترتيب أوضاع مدينة طرابلس التي قد تشهد صراع طائفي دموي على خلفية الحدث السوري، إضافةً إلى الاهتمام قدر الإمكان بمعالجة الوضع الاقتصادي المتردي.

ملاحظات على  الحكومة الجديدة

اللافت في هذه الحكومة، أنها أتت وفقًا لمبدأ (الرجل المناسب في المكان غير المناسب)، فقد تفنَّن موزعو الحقائب في منح الوزارات إلى من لا يفقه بها، وأتت المداورة (في الحقائب) لتخلع من نجح في وزارته (تقنيّاً) إلى وزارة أخرى بعيدة عن اختصاصه، وما جناه من خبرة خلال السنوات الماضية، كما نقلت من فشل في وزارته إلى وزارة أخرى سيفشل في التعامل معها حتماً.

وقد يقول البعض: إن منصب الوزير هو سياسي لا تقني، ومن يدير الوزارة هم الموظفون العاملون بها كل حسب اختصاصه، فإذا كان الأمر صحيحاً، فقد يكون من المناسب ترك الوزارات للمختصين، ووضع السياسيين في وزارات دولة يتفرغون من خلالها للعمل السياسي ولمناكفاتهم التي تشغلهم عن تطوير أعمال هذه الوزارات وتيسير شؤون المواطن التي يتمتع فيها غير المختص بالكلمة الفصل. وبعد أن أصبح تداول السلطة في لبنان أقرب إلى معجزة سياسية منه إلى عملية دستورية طبيعية، لا بد من تقدير الإنجاز الذي حققه السياسيون اللبنانيون، بإيحاء من الخارج، في أدق منعطف في تاريخ لبنان والمنطقة .. وإن جاء بعد مخاض عسير دام أكثر من عشرة أشهر.

إن الجهود الذي بذلها الرئيس تمام سلام حتى يتمكن من جمع جميع التناقضات السياسية والأيديولوجية التي تسيطر على الحياة السياسية اللبنانية في حكومة واحدة يجعلها تستحق لقب حكومة (مكره أخاك لا بطل).

 

(*) المئة يوم هي المدة الفاصلة بين إعلان تشكيل الحكومة وموعد انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، فالحكومة تُعتبر مستقيلة حكماً بانتخابه.

العدد 1104 - 24/4/2024