حول فيلم القبر المفتوح

حين تتدافع الأيام لتنسج واقعاً مزدحماً بالشك والارتياب، يتناسل الحقد ويكثر التباغض، فيرفع جنون الكراهية للإنسان سماء رصاصية تطبق على آفاقه ناشرة جحيماً ملغوماً يسابق خطوات النزوح الأخير.. وفي عجالات التدافع تتدحرج صرخات الاستغاثة لتنذر المتواطئين المتسربلين بالخيانة، فتبشرهم بأبد الخواء المريع.. ويكاد فيلم القبر المفتوح open grave الذي استبعد من صالات العرض الأمريكية، أن يترجم الحلقة المفقودة بين سقر الجحيم وبؤس الذاكرة المتشظية بخفايا الالتباس بين آلام الضحايا وشبهات القتل.. تلك الحلقة التي تبدأ بصعود العلم المتجرد من تبعات المسؤولية الأخلاقية، وتنتهي بسقوط الحضارة المفرغة من القيم الجمالية..

تشكل بداية الفيلم صدمة للمشاهد، إذ تضعنا أمام احتمالات عديدة لتفسير الصورة المعروضة، المأخوذة لرجل مدمى يستيقظ وسط حفرة مليئة بجثث قتلى، مما يجعلها أشبه بمقبرة جماعية مفتوحة، تتسع مع تدرج الأحداث نحو خواتمها لتفصح عن قبر مفتوح قوامه مساحات شاسعة، تلتهم أجساداً ضبابية غامت معالمها فاستحالت رقماً مضافا إلى متواليات حسابية لانهائية.. يصرخ الرجل طلباً للنجدة، فيتلقى حبلاً ضخماً يساعده على الخروج من الحفرة، ليجد نفسه في غابة يتوسطها منزل. فيدخله ليجد بداخله ثلاثة رجال وامرأتين يتبادلون الاتهامات، بينما رجل يتلوى متشنجاً وكأنه يستيقظ من الموت. وتتوالى الإشارات التي تدل على أشخاص فاقدي الذاكرة، يستدلون على أسمائهم من هوياتهم الشخصية الملقاة على الطاولة، مما يوحي بصفة الجثث الحية التي تعرف بالزومبي.

وبالتالي يكون المخرج Gonzalo lqpez Gallego قد أنهض جثث القتلى لتستدير دورة كاملة حول ذاكرتها المنهكة وتتبادل الأدوار مع الهالكين المتروكين في الأضرحة المفتوحة. فتتعاقب ذكريات التعذيب في المحجر الصحي المختلطة بعصف الجنون الدامي، لتضع تاريخ المهمشين أمام مهزلة جديدة تصوغها ذاكرة المكان التي احتضنت يأس الساعات الأخيرة للمنكوبين. مما يعطي للنص طابعاً سوداوياً حزيناً يبلغ ذروته في مشهد المجنون العاري العالق بالأسلاك الشائكة، والذي يصرخ طلباً للنجدة. وحين يأتيه أحد الرجال منقذاً يقتله المجنون بوحشية، بعد أن يلصقه بالأسلاك نفسها، فيكون أول مغادر لمسرح الأحداث العبثي في الغابة المعزولة. ويعقبه الثاني بعد أن يحاول التحرش بالمرأتين طلباً لألفة تلح على ذهنه الممزق بالصداع. بينما يستعيد الثالث ذاكرته كطبيب حين يلتقط نظارته، ويتجول في أماكن المعتقل قبل أن يعي مقتله على أيدي القوات الحكومية، التي قدمت تحت حجة إنقاذ الفريق الطبي المكلف بعلاج طاعون جديد مقترن بالجنون. أي أن الأجساد التي لعبت دور الدمى على مسرح الأحداث كانت للفريق الطبي الذي أجرى تجارب على المصابين لصالح الجيش، الذي تسلم نتائج الأبحاث وأصدر الأمر بإعدام الفريق الطبي. فلم ينجُ سوى طبيب واحد وامرأة حملت في دمها مصل الخلاص من الوباء، بعد أن وجد نفسه مجدداً في حفرة الموت لتنقذه المرأة بحبل ثخين. وبذلك يكون الطبيب قد طاف بآلام الضحايا وعاين قسوة الضمير المتجرد من أصول الغريزة الدفاعية المكرسة لحفظ النوع الإنساني. أي أصبح متعتقاً في الألم ومتهيئا لدور المخلص أو المنقذ. وبالتالي يكون رهان المتحجرين على فشل الذاكرة البشرية في استعادة ألق التعاطف الإنساني قد أحبط، وهي الغاية الأهم للهبوط في المطهر.

جمع الفيلم بين أبطال من جنسيات متعددة، تحت شعار العالم بأسره معرض لفيروس الطاعون، الذي يتجاوز الموت الأسود إلى رعب انعدام الضمير. وكفل مسرح الأحداث ولباس الجنود الأسود، بمنح الطابع الشمولي الذي يوحد الجميع في المصيبة. أما تقنية التحريك الدرامي المستندة برشاقة على فكرة (الزمبي) فقد منحت للفيلم التحفيز المناسب ليقظة الفكر..

العدد 1104 - 24/4/2024