في الأزمة الأوكرانية وتداعياتها أوكرانيا ودولياً

تشير تطورات الحالية الأوكرانية المستمرة منذ شهر شباط الماضي، والتي شملت تباعاً كل أنحاء الجمهورية، بأنها ليست وليدة لحظتها، وإنما جرى التخطيط لها منذ فترة ليست قصيرة. وتظهر في سياق تفاعلاتها أنها أكبر بكثير من احتجاجات مناطقية أو وطنية أوكرانية، بل إنها ترتبط إلى حد كبير بالعلاقات القارية الأوربية، إضافة إلى التدخلات الأمريكية في شؤونها من جهة، وأنها تمثل انعكاساً لشبكة العلاقات الدولية القائمة وتداعياتها من جهة ثانية.. فضلاً عن أنها تمس خاصرة روسيا الناهضة والداعية إلى عالم متعدد الأقطاب وأكثر توازناً في تعاطيه مع الإشكاليات التي يعانيها عالمنا.

فالانقلاب البرلماني الذي شهدته أوكرانيا، مطلع شهر نيسان، المستفيد من عدم (نجاح) حزب الأقاليم الحاكم في حل صعوبات البلاد الاقتصادية وطبيعة علاقاتها مع دول الجوار، وبخاصة روسيا، إضافة إلى استمرار الفساد في الهيئات الحكومية.. كذلك التباينات في إطار الحزب الحاكم حول كيفية تعاطيه مع إشكاليات أوكرانيا، والتي ما كان له أن تتفاقم لولا هذه الحالة السلبية، ولولا الدعم الخارجي (الغربي) المستمر منذ سنوات، والهادف إلى إحداث تغيير فيها من قبل دوائر الغرب المتهمة بإشغال روسيا في خاصرتها الرخوة، وفي واحدة من أهم جمهوريات الاتحاد السوفييتي. (تعد أوكرانيا ثاني أكبر جمهورية)، وبالتالي إحداث شرخ في العلاقة مع روسيا وغيرها من دول (الكومنويلث) رابطة الدول المستقلة، أي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.. وذلك رداً على الانبعاث الروسي وتكراراً للثورة البرتقالية الأوكرانية عام ،2004 التي فشلت في تحديد مسار جديد لأوكرانيا، بعيداً عن فضائها وعلاقاتها التقليدية، والتي سقط رموزها بعد دورة انتخابية واحدة فقط.

وأظهرت الأحداث المتتالية في أوكرانيا، منذ استيلاء الانقلابيين البرلمانيين على السلطة (تعيين رئيس مؤقت، حكومة مؤقتة.. إلخ) انقسام المجتمع الأوكراني ما بين شرق نهر الدنيبر (تقطنه غالبية سلافية تتبع الكنيسة الأرذثوكسية) وغربه (تقطنه غالبية سلافية تتبع الكنيسة الكاثوليكية).

كما أظهرت حجم الوهن الاجتماعي، الذي لم يجد له حلولاً في الحقبة السوفييتية وبعدها أيضاً.

وإذا لم تطرح القوى الانقلابية القومية المتطرفة برنامجاً محدداً لخروج أوكرانيا من أزمتها، ولا نعتقد أنها تمتلكه، فإنها استفادت بالحدود القصوى من توتر العلاقات الروسية – الأمريكية، وتناقضاتها في سياق معالجة الكثير من الإشكاليات التي يعانيها عالمنا.

وشكلت قمة فيلنوس الأخيرة (الأوربية والعديد من دول الكومنويلث) ومسألة (الشراكة التجارية) مع الاتحاد الأوربي، التي تنص علانية على تبعية كاملة لأوربا، مشجباً للقوى المختلفة، في مواقفها المتباينة حول كيفية تعاطيها مع الصعوبات الأوكرانية وآليات تجاوزها.

ورغم تواصل الأحداث وسيطرة الانقلابيين على مقاليد السلطة و(حياد) المؤسسة العسكرية والأمنية، الذي ساعدهم في خطواتهم المتتابعة، وتالياً شمولها عموم المناطق الأوكرانية، فإنها أظهرت في الوقت نفسه إحجام أوربا والولايات المتحدة عن اتخاذ أية إجراءات إنقاذية للاقتصاد الأوكراني حتى تاريخه. ولا نعتقد أنها قادرة أو راغبة في اتخاذها، مقابل المساعدات الروسية الكبيرة الإنعاشية للاقتصاد الأوكراني.

وتؤكد الوقائع الدامغة المتتالية، وبخاصة مواقف (الغرب) من الأزمة المتفاقمة، أن المقصود، إضافة إلى سلخ أوكرانيا عن محيطها، إحداث شرخ في (الكومنويلث) وإشغاله في خاصرته الرخوة، في رد واضح على المواقف الروسية القارية والدولية المتتالية، الهادفة إلى إيجاد شبكة علاقات دولية أكثر توازناً، وصولاً إلى التعددية القطبية التي تنشدها غالبية دول عالمنا.

وإذ يركز الإعلام (الدولي) عموماً، والغربي خصوصاً، على أن الأحداث تتمحور بين الشرق والجنوب الأوكراني وسكانه الروس أو الناطقين بالروسية، المؤيد لعلاقات مميزة مع روسيا وفضاء أوكرانيا التقليدي من جهة، ومن جهة أخرى الغرب الأوكراني المؤيد لعلاقات خاصة مع الاتحاد الأوربي، وصولاً إلى نيل عضويته ولاحقاً عضوية حلف الناتو، فإن حقيقة الأحداث تؤكد مرة أخرى واقع التباينات والتعارضات في المجتمع الأوكراني وأحزابه وقواه على اختلافها.

لم تنجح الثورة البرتقالية اليمينية عام 2004 في حل إشكاليات أوكرانيا، ولم ينجز حزب الأقاليم منذ إسقاطه رموز الثورة البرتقالية وقواها انتخابياً عام 2009 وتوليه السلطة، خطوات جدية نحو حل هذه الإشكاليات.. وساهمت الحالة الاقتصادية – الاجتماعية والتدخل الخارجي الذي يتضح حجمه يوماً بعد يوم، في فرز الأوضاع بين مدافع عن الانقلابيين وخياراتهم الاقتصادية ونهجهم الغربي، وبين الساعين إلى حل صعوبات أوكرانيا، في إطار الحفاظ على استقلالها الجذري وعدم تبعيتها، وفي علاقات أكثر توازناً وعقلانية.

تتواصل الأحداث في أوكرانيا، وتظهر في سياقها أن أوكرانيا باتت مسرحاً للصراعات الدولية، وتكشف حقيقة مواقف أطرافها ما بين الانحياز غرباً، أو الاستقلالية الجذرية ومواجهة الضغوط الخارجية.. فهل تكرر أوكرانيا تجربة البرتقاليين اليمينية الفاشلة، أم ستمثل محطة مراجعة للقوى الأوكرانية عموماً، ولكيفية تعاطي الآخرين معها؟ هذا ما سيؤكده منحى تطورات الأحداث الجارية، وقدرة القوى الفاعلة ونفوذها المؤثرة فيها، منذ شباط الماضي، وأبعادها أوكرانياً ودولياً أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024