مجزرة الأرمن… آراء وشهادات

تسعة وتسعون عاماً ودماء نحو مليون ونصف مليون أرمني قضوا على أيدي سلاطين الإمبراطورية العثمانية والتركية لم تجفّ، ولا تزال تنتظر من أحفاد القتلة الاعتراف بتاريخهم القذر في القتل وسفك الدماء ونهب مقدرات الشعوب ومصادرتها وبناء الأمجاد على الجماجم.

ولأن العثمانيين الجدد بزعامة أردوغان كأجدادهم القتلة، فإنهم لا يوفرون فرصة للتفاخر بنسبهم وينكرون ارتكابهم مجازر إبادة جماعية توثقها الحقائق والوثائق وشهادات مئات الناجين من بطش انكشاريي العثمانيين القدامى الذين ارتكبوا مجازر يندى لها جبين الإنسانية، والأمر ذاته يتكرر اليوم مع حكومة حزب العدالة والتنمية الإخوانية التي كشفت زيف ادعاءاتها وتورطها في قتل آلاف السوريين والمصريين والليبيين بدعمها للمجموعات الإرهابية المتطرفة.

آلاف الوثائق والشهادات التي تؤكد مقتل أكثر من مليون ونصف مليون أرمني على أيدي العثمانيين عام 1914 وما زال الانكشاريون الجدد ينكرون ذلك ويصمون الآذان ويتشدقون بالحديث عن الحرية والديمقراطية، ويتجاهلون ما وثّقه المؤرخون، إذ تقول إحدى الناجيات من براثن أجداد أردوغان: (كانوا يمسكون بالنساء كالأكياس يشعلون النار بأطراف ثيابهن ويرمون بهن إلى الأسفل.. الكل يصرخ، يستغيث.. عندما صرت في الداخل قفزت لأجد نفسي جريحة مرتجفة في إحدى زوايا جهنم وغبت عن الوعي.. صحوت في اليوم التالي ورأيت في الخارج كيف كانت تنتشر جثث النساء والأطفال المبقورة بطونهم).

من جهته.. يروي آرام جورجيان الذي كان يبلغ من العمر 10 سنوات كيف طُردت العائلة نحو محطات الموت التي روى عنها في 17 أيلول 1989 نهاراً بكامله ويقول: (كان يرافقنا أربعة إلى خمسة من الجندرمة من مدينة إلى أخرى يتم تبديلهم.. لكنهم اختفوا في هذا اليوم… وتمت متابعة طردنا إلى حقل كان يجب أن ننام فيه.. وعندما بزغ الفجر استيقظنا على صرخات الخوف والاستغاثة.. قطعوا الرؤوس وبقروا البطون، والذين بقوا أحياء تركوهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم).

ويضيف في تسجيلات وثقتها ميهران دباغ (مديرة معهد بحوث التهجير وإبادة الجنس في جامعة بوخوم بألمانيا) التي تحتفظ بها مع 138 شهادة أخرى أدلى بها الناجون من المذابح: (أخذوا أيضاً أخواتي الصغيرات معهم ابزوهي (14 عاماً) ساروهي (15 عاماً) وأمي وأنا، كنا عراة تماماً.. الكل الكل عراة… وعندما عبرنا الفرات دفنّا أختي الصغيرة سيرفات في الرمل.. كانت الوحيدة من عائلتنا التي استطعنا أثناء مسيرة الموت دفنها).

وتروي صورة لصحفي ألماني محفوظة في أرشيف الفاتيكان ذكرى مذبحة الأرمن الكبرى يوم 24 نيسان التي قضى فيها نحو مليون أرمني، فهي تصوّر أمهات أرمنيات معلقات على الصليب عاريات تم صلبهن أثناء الإبادة من قبل الجنود الأتراك، قبل أن يقوم الدرك التركي بملاحقة الأهالي الذين كانوا يخبئون الأطفال الأرمن خشية من أن يقعوا بين براثن الدرك، إذ تقول برقية برقم 603 موقعة باسم وزير داخلية الدولة العثمانية (علمنا من مصادر موثوقة بأن أيتام الأرمن المهجرين من الذين تمت إبادة أهلهم على طرقات سيواس معمورة العزيز خربوط ديار بكر أرزروم تتبناهم بعض الأسر المسلمة أو يخدمون في بيوت هذه الأسر. نأمركم بجمع هؤلاء الأيتام من بيوت المسلمين وتهجيرهم إلى الصحراء).

ويعد يوم 24 نيسان عام 1915 رسمياً بداية لإبادة الأرمن الجماعية، حين أمر الحكام الأتراك الشباب وبينهم الزعماء الثلاثة طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا بجمع المثقفين الأرمن في إسطنبول وتهجيرهم إلى خارج البلاد وقتل الكثير منهم في اليوم نفسه، ما أدى إلى القضاء على جيل كامل من أبرز ممثلي الثقافة الأرمنية. وخلال الأيام الثلاثة التالية لقي 5ر1 مليون أرمني مصرعهم على أيدي السلطات العثمانية، وتم تهجير الباقي من الأرمن الأتراك إلى العراق ولبنان وسورية عبر مناطق صحراوية شهدت مقتل أغلبهم بسبب المجاعة والأمراض، والفصل بين النساء والأطفال من جهة والرجال من جهة أخرى.

وبحسب تقييمات بعض المؤرخين فإن الإبادة المنتظمة للأرمن بدأت في نهاية القرن التاسع عشر 1894-1895 إذ تكشف صفحات التاريخ عمليات قتل جماعي بلا رحمة ارتكبها سلاطين الامبراطورية العثمانية بحق الأرمن.

وتشير الوثائق إلى أن الجيش الانكشاري التركي قام بتنفيذ عمليات قتل ممنهجة طالت الأرمن، دون التمييز بين النساء والأطفال والشيوخ، فقتل الآلاف في مدينة طرابزون وحدها وبوقت قياسي تزامناً مع تحريف متعمد من السلطات التركية حينذاك لبعض الآيات القرآنية زاعمة أن القرآن لا يعارض مصادرة ممتلكات الأرمن وقتلهم وتشريدهم. وكان السلطان عبد الحميد الذي حكم البلاد حينذاك، بمعاونة من ولاته وقادته العسكريين، يخطط للقتل الجماعي بغية تقليص عدد الأرمن في تركيا والقضاء عليهم قضاء تاماً في المستقبل.

وشهدت مدينة عرفة التركية التي شكل الأرمن فيها ثلث السكان مجزرة بشعة فاقت بقساوتها الممارسات البربرية، وبلغ عدد القتلى من الأرمن في هذه المدينة ما يزيد على 7 آلاف قتيل ضمنهم 1500 أرمني طلبوا الحماية الرسمية من جانب السلطات التركية، فتم حرقهم أحياء في الكاتدرائية وأبيدت عائلات بكاملها.

وتوضح الوثائق أن الأرمن نظموا مظاهرة في إسطنبول بهدف تسليم عريضة إلى السلطات العثمانية التي أمرت قواتها بتفريق المظاهرة، وأعقب ذلك مجازر بشعة في إسطنبول والمدن التركية الاخرى قتل فيها خلال عشرة أيام نحو 100 ألف أرمني.

وفي عام 1908 حاولت السلطات التركية تغيير الصورة المقيتة لهم في نظر العالم، بالإعلان عن خطوات روج لها بأنها أكثر ليبرالية وتسامحاً إلا أن الواقع اثبت غير ذلك، حين ارتكبت مجازر في كيليكيا وأضنة راح ضحيتها ما يقارب 30 ألف أرمني إضافة إلى تدمير وحرق عشرات من القرى والبلدات الأرمنية.

وتم تشتيت ما يزيد على مليون شخص من اللاجئين الأرمن في العالم كله. واستمر القتل الجماعي للأرمن في فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك وذلك لغاية عام 1922حين دخلت القوات التركية مدينة أزمير في أيلول عام 1922 ورافق عملية الاستيلاء على المدينة مجزرة بحق السكان من الأرمن، فحرقت أحياء بكاملها واستمرت المجزرة 7 أيام تسببت في هلاك نحو 100 ألف شخص.

وكان لافتاً أنه في بداية التسعينيات من القرن الماضي تمكنت الدبلوماسية التركية، بمساعدة إسرائيل والمنظمات اليهودية الأمريكية، من إلغاء ما كان مخططاً له منذ البداية بإدراج جناح للمجازر الأرمنية في أحد متاحف واشنطن، بعدما كان الجناح جاهزاً بكل تفاصيله، فيما اعتبر البرلمان الأوربي في تموز 1987 أن (الأحداث التراجيدية لأعوام 1915-1917 هي عملية إبادة جماعية استناداً إلى معايير اتفاقية الأمم المتحدة في 1948).

وفي هذا السياق.. لم يكن مستغرباً وقوف بعض مشايخ الفتنة المأجورين كيوسف القرضاوي إلى جانب تركيا ضد أي قرار يتخذ في أي مكان في العالم يقضي بتجريم إنكار المذبحة ضد الأرمن إبان الحكم العثماني.

وفي المحصلة، إن دعم حكومة أردوغان للمجموعات الإرهابية المسلحة التي ترتكب المجازر ضد السوريين هو استكمال للمجازر والجرائم بحق الأرمن قبل 99 عاماً، وسيسجل التاريخ وذاكرة الشعوب أردوغان إلى جانب اسماء أجداده والصهاينة واحداً من أكبر سفاحي العصر.

 

سهيل فرح

عضو مجلس الشعب

العدد 1107 - 22/5/2024