«البجعة السوداء»… كالطير يرقص مجروحاً

يُحكى أنه طُلب من دافنشي، أن يرسم لوحةً تعبر عن الخير والشر بعمق، فسعى ليوناردو باحثاً عن البراءة، فوجده في وجه أحد منشدي جوقة موسيقية، فطلب منه أن يكون واحداً من وجهي لوحته مستغرقاً ثلاث سنوات في رسمه، ولأن الوقت داهمه همّ بالبحث عن الآخر..الشر بأدق تفاصيله، فوجد ضالته في غيهب إحدى الحانات، وقد أشعث السُّكر محياه… شابٌّ أكل الدهر عليه وشرب، تكاد لا تميزه عن كهل، فأخذه ليرسمه، ولكن المفاجأة التي صعقت دافنشي بعد أن انتهى من لوحته، هو الاعتراف الذي دوّى به صوت الرجل بعد أن استيقظ من توهانه المخمور…

في هذا العمل يقدم لنا مخرج (المصارع)، و(مرثية لحلم)، العبقري (دارين أرونوفسكي)، فيلماً استوحى فحوى مغزاه من باليه (بحيرة البجع) لتشايكوفسكي، ليعرِّي لنا النفس البشرية برمزية صارخة بشدة، وسوريالية متمردة وواخزة بقوة في كثير من المشاهد.

مقارنة بغزارة الإنتاج الهوليودي الهائل والباذخ، أتى فيلم (البجعة السوداء)، عملاً مميزاً بين الأعمال السينمائية التي باتت قليلة في الآونة الأخيرة في قالب رائع لتجريد النفس البشرية من أقنعتها، لدى انزلاقها إلى الحضيض، عندما تُعمى القلوب بوميض الطموح المبهر.. عندما يعميها ذلك الصراع الآخذ بالتوتر بين الفينة والأخرى للتفوق والفوز بالأفضل، صراع النور والظلام، متجسداً أيّما تجسّد في الأداء المذهل لـ ناتالي بورتمان – أوسكار أفضل ممثلة دور أول 2011)، متفوقةً به ليس على نفسها فقط بل على مسيرتها السينمائية السابقة قبل هذا الفيلم، وهو الدور الذي رشحها له المخرج قبل سبع سنوات عندما كان العمل قيد التحضير، إذ تلعب دور نينا الشابة راقصة الباليه والطامحة للفوز بدور ملكة البجع، الباحثة عن الخلاص من السحر الذي ألقي عليها من جهة، ونينا الهاربة من سيطرة والدتها (باربرا هيرشي) الباليرينة المشهورة التي تخلت عن شهرتها لتتفرغ لطفلتها نينا، حالمةً بأن تكمل ابنتها مسيرتها التي وأدتها.

نينا المنعزلة بهواجسها ومخاوفها عن كل ما حولها، إلا من شغفها بالتمرن لنيل الدور، والمضطرم خلسةً تحت ثنايا النفس المحاصرة باهتمام الأم وتحكّمها، إضافة  إلى أنواء الماضي غير المصرح عنه بشكل مباشر، الذي يفرض نفسه بقوة على مستقبل الشابة وحياتها.

لكن كيف للنفس المضطهدة بأغلال الطموح والفوز، أن تطمئن وترتاح من رقصها المضرّج بدماء الصراع الذي يتنازعها، ما بين رغبتها في الحصول على الدور، وتمرنها المستعر لتنال دور البجعة السوداء دون أدنى انتباه أنها تحاول الخروج من جسدها بين الفينة والأخرى دون أن تدري ماهية ما يحدث معها، خصوصاً أن الجروح التي كانت تعلو كتفها كانت تزداد مع تفاقم أزمتها المصيرية في المسرحية، إلى أن تفوز البجعة السوداء في نهاية العمل، وتظهر سوريالياً للعيان بطريقة أخّاذة جداً، ومحاولتها إقناع مخرج المسرحية توماس، الممثل الفرنسي (فنسنت كاسيل)، وغير المقتنع بقدرتها تلك، لما تحمله من براءة  ونقي يصعبان الأمر، فيضطر لاستفزاز تلك البراءة وزحزحتها عن استقرارها، مضرماً النار في أحاسيسها الجنسية الرابضة، مشجعاً إياها على لمس نفسها كي تتعرف عليها أكثر، وذلك بالتزامن مع قدوم منافسة لها على الدور: ليلي (ميلا كونيس)، فيبدأ الغموض الذي وشّح تلك الهواجس الملتبسة بالأحلام المرعبة والهلوسات، كما تكشف أحداث الفيلم، الذي ينتهي بإلقاء البجعة نفسها تزامناً مع انتهاء المسرحية وتصفيق الجمهور الحاد إعجاباً بأداءها، وهي تخاطب المخرج، بأنه كان على حق، وذلك ما معناه أننا لن نصل إلى الكمال حتى نعيش نقيضينا حتى نهايتهما، فهي مع بداية الفيلم كانت غاية البراءة والنقاء، وقد أدت ذلك ببراعة قد يعجز المشاهد عن تصديق أن ذلك تمثيلاً، وأن طاقماً كاملاً من السينمائيين خلف الكاميرا، فصدق تعابير الوجه والجسد في انفعالاته… ضحكاته… بكاءه ورقصه كان كافياً لنقل ذلك الإحساس الذي فاض من الشاشة، وكذلك الأمر بالنسبة لسطوة الشر عليها، وانقلاب حالها للشراسة بغية حصولها على مرادها.

العمل يدور في 127 دقيقة من الانخطاف وراء كاميرا، نقلت العفوية بطريقة كئيبة، نقية بدايةً ودموية نهايةً، جعلت بعضاً من مشاهد العمل محفوفة بالترقب والتوتر والحرج، وخصوصاً في مشهد المثلية الجنسية مع تعمد أطاله المخرج كثيراً لسببٍ يصعب فهمه، مع العلم أن ذلك المشهد كان من ضمن الهلوسات التي كانت تهاجم نينا بضراوة دون أن تثنيها عن المضي نحو مرادها وليس حقيقياً، أضاف المخرج إليها موسيقا مميزة جداً خدمت الفيلم، إذ جسد فيه عشقه لرقص الباليه منذ صغره عندما كان يشاهد شقيقته، وأيضاً بعد أن شاهد عرضاً حقيقياً لبحيرة البجع تلعب بطلته الدورين الرئيسين في المسرحية ،وذلك كان الدافع وراء إنجازه لهذا العمل.

 ما اعترف الرجل به لدافنشي بعد صحوته أنه هو الرجل ذاته الذي رسمه منذ ثلاث سنوات، بعد أن عاثت الشهوات به وغيّرت حاله.

العدد 1105 - 01/5/2024