يعقوب كرّو.. مرّة ثانية

وأرى أن الذاكرة هي محفظة الأشياء التاريخية التي وعاها الإنسان وانصرف عنها.. إنها الأشياء المهجورة في محفظة وعي الإنسان.

والذاكرة لا مسافة لها، كأنها خارج مدى المسافات والأوقات والأزمنة.. إلا أنها تلقائية عفو خواطر المناسبات والمسافات والأوقات والأزمنة.. وإن حضورها منسوب إلى أشياء مضت وانقضت في حلوها ومرها، كأنها من صفات الإنسان المنسوجة في وعي حافظته.. ولكن من ينبش الذاكرة من يحرك ذات ذاكرتها المحفوظة في وعي الإنسان؟!

إن عفو الخاطر الموصول بخيوط محفظة الذاكرة يشكل مؤشر حركة الذاكرة واستوائها وعياً مؤجلاً وحاضراً في وعي الإنسان!

إني في وعي ذاكرتك، فأعي جماليتها في وعي جمالية ذاكرتي..

وكنا في جمالية وعي دربنا، نمسك ولا نمسك بحقيقة البروليتاريا التي تكبدنا وكبدناها خسران فشلنا.. وما زلنا نتفادى الأخطاء في ذاكرتنا وخارج ذاكرتنا ونحن قابضون، على جمر وعينا في نيران حرائق الحرب الأهلية المتصاعدة على الأراضي السورية.

وفي عام 1957 كنت أساكنه الوعي الثوري ونحن في بيت (أم طوني).. هو طالب في جامعة دمشق – قسم الحقوق، وأنا مُطارد فكر وتنظيم على أرض وطني النائية عني، وأنا في دمشق الحالمة بالوحدة العربية: في البيطار والحوراني وعفلق… وكانت ذاكرة البروليتاريا تشدنا في ذاكرتها حتى تكاد تختلط ذاكرة ثورة أكتوبر الروسية المجيدة في ذاكرتينا.. كأن التاريخ أصبح طي قبضتينا هنا في دمشق وهناك في الرياض (!!!).

يعقوب كرّو، الطالب في جامعة دمشق، يدلف الدار عندي أحياناً وهو مضمد بلفائف الشاش الطبية إثر صدامات طلابية بين اليسار السوري والإخوان المسلمين.

إنها ذاكرة التاريخ بعينها أقول بيني وبين نفسي في حياة الأمم والشعوب بين الظلام والنور..

وعلى رنين الهاتف مساء يوم أمس، بعد مضي أكثر من نصف قرن، يأتيني صوته مطمئناً بعد أن سمع أني في علاج من مرض خبيث… هو الصوت ذاته في بحته الرجولية ودفء نبضه الإنساني.. وكأن جرح سورية النازف انوجد في جرح صوته، فأحسه مجروح النّفْس والنَفَس… إلا أني أعرف أنه قوي الشكيمة واثق العزيمة، كما عهدته، فهو مسكون بمجد سورية الذي لم يغب لحظة واحدة في حقيقة اليسار السوري الذي يجسد وعي انتصار الشعب السوري.. في الحرب الأهلية .

عندما كانت الوحدة بين مصر وسورية تنامت الأفكار شمالاً ويميناً، وقد حذّر اليسار السوري يومذاك بوحدة عربية مشحونة المشاعر والعواطف القومية وكان فشلها المحتوم وفق ما حذّر منه اليسار السوري… يومذاك دخل يعقوب كرّو السجن مع ثلة من خيرة الوطنيين اليساريين.. وحملت رحالي خارج سورية إلى بيروت، فقد كانت الجريمة شديدة البشاعة في حرق جسد الإنسان الوطني الكبير فرج الله الحلو بنار الأسيد وإذابته.. وكانت جريمة شنعاء نكرة ارتبطت بوحدة البعث والناصرية على الأرض السورية.

إني في رحلة ذاكرة تأخذني إلى اعتاب أكثر من نصف قرن، يوم أن سمعت صوت يعقوب كرّو اهتزت خيوط ذاكرتي وأنا أسمع صوته من بعيد بعد غياب طويل، فتذكّرت هذا البيت الشعري لقيس ابن الملوح:

وإني لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلله القطرُ

وكنت أريد أن أسأله: أيطول ليل دمشق التي أحببناها بزنابق ورودها وهزيز ذهاب وإياب صباياها..

يومذاك كانت الحياة زاهية باليسارية… يومذاك كانت أحلامنا تفيض وعياً إنسانياً في وعيها..

هي الذاكرة أستعيدها مرّة ثانية على رنين هاتف يعقوب كرّو، في صوته الذي يتقطع سورياً محزوناً قطعة .. قطعة في دماء أطفال ونساء سورية..

أسأله عبر الهاتف: كم عمرك؟! يأتيني صوته واثقاً محباً للحياة ولذائذ فواكهها… في السبعين… وأنت؟ أقول:

في الثمانين… فأقول بيني وبين نفسي 70 + 80 = 150 عاماً أشهد أنا عشنا طول الحياة وعرضها.. وسوف نعيش ما تبقى منها على الطريق ذاته.

سلاماً هي حتى مطلع الفجر!

العدد 1105 - 01/5/2024