من الصحافة العربية العدد 634

نحو توازن جديد للقوة في الشرق الأوسط

وجدت قلقاً حقيقياً في دوائر صنع السياسة في عدد من العواصم العربية خاصة والإقليمية عامة. اتجه ظني في بداية الأمر  إلى التوتر الناجم عن عدم استقرار الأوضاع الداخلية،  إلى أن اتضح لي أن أكثر القلق ناجم عن حالة (عدم التأكد) من نوايا الرئيس باراك أوباما. بمعنى آخر، هناك قدر كبير من الغموض المصحوب بشكوك عديدة لدى كثير من قادة المنطقة يحيط بالعملية الجارية حالياً في الولايات المتحدة تحت عنوان: (بناء صرح جديد للسياسة الخارجية الأمريكية والأمن القومي الأمريكي).

يحدث في أوقات الأزمات السياسية المعقدة أن تختفي معلومات فيصعب الفهم وتتعدد الرؤى. تختفي المعلومات في أوقات الأزمات بسبب سرعة تطور الأحداث، ولكن أيضاً بسبب انتقال معظم القرارات الهامة  إلى أيدي عدد قليل جداً من المسؤولين وأحياناً  إلى أجهزة بعينها. تختفي أيضاً لأن الدول وهي تمر بمرحلة تعديل سياساتها، تحرص على المبالغة في إخفاء المعلومات ومناهضة الشفافية.

أستطيع بقدر كبير من الثقة أن أتفق مع من سبقني، وقرر أن قطاع الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية يمران بمرحلة شديدة الحساسية والتعقيد. دليلي هو هذه اللافتات العديدة عن تغييرات في الأفكار الأساسية والأساليب. لا أعتقد أن عهداً آخر تعددت لافتاته عن سياساته الخارجية والدفاعية كما تعددت في عهد أوباما. أذكر لعهد الرئيس رونالد ريغان لافتات قليلة العدد، أغلبها كان يركز على مواجهات الحرب الباردة وتشجيع الدول على تحرير أسواقها واقتصاداتها. وأذكر للرئيس بوش الصغير لافتته الشهيرة عن محور الشر وضرورات محاربته، كما أذكر له لافتتي فرض الديمقراطية على شعوب العالم بقوة السلاح والحرب العالمية ضد الإرهاب. أما أوباما فلافتاته عديدة ومتغيرة، أبرزها وقف الحرب العالمية ضد الإرهاب لسنوات ثم إشعالها من جديد، الانفتاح على عالم الإسلام السياسي وتشجيع مناصريه ثم التوقف لتقييم التجربة، ولافتة التحول نحو الشرق ثم التباطؤ قليلاً لمتابعة أمور استجدت في الشرق الأوسط. تابعنا أيضاً لافتة تجاهل الحلفاء التقليديين في أوربا تعبيراً عن تبرم وتململ، ثم العودة إليهم بتردد عندما بدأت معركة أوكرانيا. بل إن الشقيقة سورية حظيت وحدها في أزمة واحدة بلافتات كثيرة، بدأت بلافتة إسقاط الأسد وانتهت بالتعامل معه مروراً بقرار حشد قوات أمريكية والتهديد بحرب والعودة سريعاً عن هذا القرار، عندما امتنعت الحليفة بريطانيا. شاهدنا أيضاً على أيدي إدارة أوباما لافتات ضد إيران ولافتات مع إيران، ولافتات مع النظام الجديد في مصر ولافتات ضده. وإن نسينا يوماً، فسيكون صعباً أن ننسى لافتة الحل المعجزة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. جهد كبير ورحلات مكلفة مالاً ووقتاً، وتنازلات على حساب مكانة الرئيس ووزير خارجيته ورئيسة مستشاريه، والنتيجة أن مر شهر نيسان ولا حل!

اللافتات عديدة ومتناقضة، ولكن يجب الاعتراف بأن بين هذه اللافتات جميعاً يمر خط تكاد تراه العين المجردة، خط مستقر ومستمر ينبئ عن نية راسخة لدى أوباما تسعى  إلى تقليص الاعتماد على القوة الصلبة، خاصة العسكرية، لمصلحة الاعتماد على القوة الناعمة، خاصة الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية، لتحقيق الأهداف الأمريكية، خاصة الأهداف المتعلقة بالأمن القومي وحماية المصالح الحقوقية.

لم يتصور أحد أن تكون بسيطة وميسرة عملية الانتقال بسياسات الأمن القومي من مرحلة استمرت طويلاً  إلى مرحلة أخرى بظروف وتوازنات قوة مختلفة تماماً. لم تكن بسيطة أو ميسرة في عهد الرئيس ولسن وهو يجرب العودة  إلى الانعزال، ولا في عهد الرئيس روزفلت وهو يقرر الخروج بالولايات المتحدة من سياسات الانعزال  إلى سياسات التدخل والانخراط والحشد والتعبئة. ولم تكن بسيطة أو ميسرة عندما قرر رؤساء الحرب وما بعد الحرب العالمية الثانية الحلول محل بريطانيا وفرنسا في قيادة الهيمنة الإمبريالية الغربية والتصدي للاتحاد السوفييتي. وأظن أنها لم تكن بسيطة أو ميسرة المرحلة التي بدأت بإعلان أوباما عن نيته خفض الإنفاق العسكري وإعادة الاهتمام بالبنية التحتية الأمريكية وتخفيض أعباء مسؤوليات القيادة.

يهمني في هذا الصدد ما أعتقد أنه يتصل بنية أوباما في تحرير الولايات المتحدة من روابط وقيود تحالفاتها التقليدية، إذ لا يخفى أن بعض هذه التحالفات صار عبئاً على أمريكا، وسيكون عبئاً أثقل إذا استقرت نيتها على تبديل أولياتها القومية. المثال الأبرز أمامنا هو النمط التقليدي للتحالف مع دول غرب أوربا. هذا النمط لم يعد صالحاً أو فاعلاً في ظروف تغيرت فيها إمكانات الدولة القائد للحلف. مرة بعد أخرى تثبت أوربا أنها غير قادرة على تحمل قدر أكبر من المسؤولية فتسهم في تخفيض أعباء الولايات المتحدة، ولا شك أن الأمر تحول  إلى معضلة والمعضلة تزداد تعقيداً، إذ يدرك أوباما خطورة انفلات سباق تسلح في أوربا، وفي الوقت نفسه يعرف، حق المعرفة، أن أمريكا وحدها لن تتحمل طويلاً مسؤولية الدفاع عن أوربا.

أظن أن أوباما أدرك أيضاً أن حلفاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط خذلوها، أو على الأقل خيبوا أملها. خذلوها عندما تركوا الشرق الأوسط ينزلق نحو أزمة لعلها الأخطر في تاريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى. ولا شك أن أحداً لن يعفي واشنطن من مسؤولية هذا الانزلاق. فقد اختارت واشنطن أن تشيد نظاماً لتوازن القوى في الشرق الأوسط يعتمد من ناحية قاعدة التفوق المطلق لإسرائيل على ما عداها من دول الشرق الأوسط منفردة أو مجتمعة. الآن، لم يعد ممكناً الاستمرار في إدارة صراعات الشرق الأوسط والتخطيط لمستقبله في ظل الاعتقاد بضرورة وجود هذا التفوق الإسرائيلي المطلق، إذ دخلت ساحات الصراع الشرق أوسطي كل من إيران وتركيا، ودخلها كذلك لاعبون من خارج النظام الرسمي الإقليمي والدولي. هؤلاء اللاعبون الجدد يشاركون، رغم أنف دول الإقليم في بناء نظام إقليمي جديد، كل بطريقته وكل بطائفته أو مذهبه، وأغلبهم ليسوا من حلفاء أمريكا التقليديين. لا يحتاج الوضع في الشرق الأوسط، بحالته الراهنة،  إلى جهد كثير لإقناع صانعي السياسة في المنطقة وأوربا والصين بأن نمط توازن القوى الذي صاغته أمريكا وحافظت عليه لمدة ستين عاماً أو ما يزيد، لم يعد صالحاً لتحقيق استقرار في الشرق الأوسط، أو لإدارة نظام أمن إقليمي.

***

من ناحية أخرى، لعل واشنطن تكون قد اكتشفت أيضاً أن الشرق الأوسط في سنواته الأخيرة مندفع بطاقة كبيرة للانحراف في اتجاه انفجار مذهبي. كثيرون يعتقدون أن أمريكا مسؤولة عن هذا الانحراف ويحمّلون بوش وموظفيه العسكريين ومساعديه من المحافظين الجدد مسؤولية ما يحدث في العراق الآن وربما في المنطقة بأسرها. أنا شخصياً أعتقد أنهم مسؤولون عن (تسريع) الانحراف وشحذ حوافه، لا عن انطلاقته.

ورثت واشنطن عن بريطانيا عقيدة الاعتماد على الأغلبية السنية في الشرق الأوسط لضمان الاستقرار السياسي والإقليمي. وبالفعل كان الاعتماد على السنّة شبه مطلق، وكذلك كان دعمها لهم ليحتفظوا بميزان القوة الإقليمي وداخل كل دولة لمصلحتهم. الآن، وبعد مقدمات لم تكن خافية، اكتشفت واشنطن أن توازن القوى في الشرق الأوسط على هذا النحو يكشف عن خلل رهيب. في أعقاب هذا الاكتشاف راحت السياسة الأمريكية تسعى لتغيير بعض الثوابت، والتدخل لتعديل توازن القوى بين السنة والشيعة في الشرط الأوسط، وانشغلت جهات عديدة وعقول وفيرة بالبحث عن نظام جديد لأمن الشرق الأوسط يقوم على (توازن جديد للقوى الطائفية). لذلك لا أستبعد أن تحدث عملية فرز شبيهة بعمليات الفرز التي جرت بشكل أو بآخر في ثورات الربيع العربي، وبعضها مستمر الآن مدفوعاً بقوى الإسلام المسلح.

لست متأكداً تماماً إن كانت أحداث 11/،9 وخاصة تفجير برجَي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، أم ثورات الربيع العربي هي التي كشفت عن مدى الاختلال في ميزان القوى السياسي في الدول العربية. واشنطن لم ترث فقط أولوية طائفة السنة، بل ورثت أيضاً أولية النخب العربية المتعلمة تعليماً غربياً والمدربة على احتكار النفوذ والحكم، على حساب النخب (الإسلامية) أو المدربة تدريباً دينياً. الآن أصبحنا نعرف كيف تدخلت أمريكا وحلفاء لها في مسيرة جميع ثورات الربيع لتزيد من ثقل النخب الدينية على حساب النخب والمؤسسات المدربة تدريباً غربياً أو عصرياً، ولم يعد سراً أنها شجعت النخب الدينية التي حصلت على قدر من التعليم في دول الغرب. نقل كل من دافيد ريمينيك (في مجلة نيويوركر في كانون الثاني 2013) وجيفري غولدبرغ (في موقع (بلومبرغ نيوز) في آذار 2014) عن الرئيس أوباما قوله إن هدفه من إقامة وضع متوازن بين الحلفاء التقليديين كالسعودية وإسرائيل من ناحية، وإيران من ناحية أخرى، هو تشييد نظام أمن إقليمي يضمن مصالح أمريكا ويخفف من خطورة الصراع المذهبي. على ضوء هذه النية، أذهب مع ما ذهب إليه معلقون آخرون  إلى الاعتقاد بأن الصراع على سورية قد يكون جزءاً من هذه الصورة الأشمل. لقد اعتقد حلفاء أمريكا التقليديون في الشرق الأوسط أن أوباما أخطأ حين رفض إسقاط بشار الأسد، لأنه برفضه إسقاطه أضاع فرصة عظيمة لفرض الانكسار على إيران. المخطئ هنا في ظني، ليس أوباما بل أصدقاء أمريكا الذين فهموا خطأ أن أوباما يسعى لانكسار إيران، هؤلاء لم يدركوا بعد أن أمريكا تسعى منذ فترة غير قصيرة لبناء توازن جديد للقوى المذهبية في الشرق الأوسط، ولا يفيدها في هذا المشروع أن تكون إيران منكسرة.

هل حان وقت الاعتراف بأننا في الشرق الأوسط، وربما لأول مرة، نعرف معرفة أفضل حقيقة توازنات القوة في المنطقة؟ لقد اشتركت عوامل متعددة في الآونة الأخيرة في دفعنا في اتجاه هذا الفهم الأفضل لنظام توازن القوى في الشرق الأوسط، منها أن أمريكا أبدت علّنا الرغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، ومنها أنها كشفت عن حالة ضعف نسبي حين تعاملت بشكل غير مألوف مع روسيا ومع الصين ومع قوى الإرهاب المسلح، ومنها أن أمريكا بدت حريصة كل الحرص على أن تصل مباحثاتها مع إيران  إلى نجاح، رافضة الضغوط السعودية والإسرائيلية. منها أيضاً أن إسرائيل تبدو هذه الأيام في موقف لا تحسد عليه في المجتمع الدولي، ويبدو تأثيرها في صانع القرار الأمريكي أضعف من أي وقت مضى. من هذه العوامل أيضاً أن أمريكا، أو على الأقل إدارة أوباما، ظهرت غير واثقة من أفضلية الاستمرار في المحافظة على (سايكس بيكو) أساساً لخريطة المنطقة في المستقبل كما كانت في الماضي، مع تعديلات طفيفة هنا وهناك، أو الخضوع لضغوط التقسيم هنا والتجميع هناك. ولا شك أن تصريح نائب الرئيس جو بايدن مشجعاً التقسيم أضاف سبباً جديداً  إلى أسباب القلق السائد في مواقع صنع السياسة في العواصم العربية.

كثيرة هي العوامل التي دفعتنا للسعي نحو فهم أفضل لحال توازن القوى في الشرق الأوسط. يتصدرها من وجهة نظري عاملان قيمتهما المعنوية أعلت من شأنهما، أولهما أن الأسد ما زال في موقعه، وثانيهما أن العراق على الطريق لإقامة توازن جديد للقوى المذهبية في داخله، إن بالتقسيم أو بتعاقدات جديدة.

جميل مطر

(السفير) 3 تموز2014 الشرق

العدد 1105 - 01/5/2024