نبراسكا.. متاهات الزمن الأخير

ارتسم الخوف من الموت ظلاً للإنسان مذ غادر فردوس النعيم، فتقاسم الحنين وغموض الإشارات الملغزة ورعب الفناء،  نحتَ الأفكار والهواجس وأسفار الأحلام.. ومع كل عمر نبتت نزوات وصبوات التصقت بالشخصية، فلوّنتها بدرجات التقبل والتكيف وإعاقات النفوس الشقية. ثم استبطنت كل رحلة مفاتيح بواباتها الخلفية، لتكشف نفاق العلاقات التراكبية، وتفضح عمق الخواء العاطفي بين المتجاورين. وهو ما حاول إيضاحه المخرج الأمريكي الكساندر باين في فيلمه نبراسكا باختراقه الذكي للتفاصيل الصغيرة في حياة كبار السن، التي يتوارى وراءها الخوف من الموت والعزلة..

تظهر المشاهد الأولى عجوزاً يدعى وودي غرانت، يسير ببطء وحيداً على جانب الطريق الدولي لولاية مونتانا الأمريكية. تستوقفه سيارة شرطة وتأخذه إلى المركز ريثما يحضر ابنه لاصطحابه. وهناك تجري محاورة باردة بين العجوز وابنه الأصغر ديفيد، نفهم منها أن غرانت كان متجهاً إلى ولاية نبراسكا مشياً، لاستلام جائزة المليون دولار، التي يفترض أنه ربحها من إحدى المجلات التسويقية المخادعة. وبعد مناورة عنيدة بين الرجلين يقرر ديفيد اصطحاب والده إلى نبراسكا بالسيارة مروراً بمسقط رأسه في البلدة القديمة، أملاً في إدخال الطمأنينة والقليل من السعادة المفقودة إلى قلب العجوز، بعدما خذلته الزوجة المتذمرة وابنه الأكبر المذيع المشهور.. ومن خلال المواقف الحياتية البسيطة يأخذنا الفيلم ببساطة إلى عالم كبار السن، فنستشعر هوّة الفراغ الكبير الذي يأكل ما تبقّى من أيامهم وذخيرتهم العاطفية، ونفهم سبب الانعطافات الصغيرة التي يجريها بعضهم التفافاً حول الموت، كالتمسّك بالمال والرغبة المتزايدة بالتسلط على المقربين، والغرق في اللامبالاة السقيمة.

تبدأ إعادة بناء الذاكرة في البلدة الصغيرة وسط كبار السن، أولا في المقبرة حيث تسرد الأم قصص الفضائح التي تخص الأموات وهي تنتشي فرحة بفوزها على من سبقوها إلى الموت. ثم في مكتب الصحفية بيغ حيث يكتشف ديفيد طريقة أمه الوضيعة في انتزاع فرصها وإثبات وجودها، وصمت الأب وانكفائه على ذاته طوال سنوات حرصاً على حياته الأسرية مع ابنيه. كما يتعرف إلى الجوانب المسقطة من حياة والده من أحاديث حبيبته السابقة بيغ، كالطيبة والكرم والتعرض للاستغلال الدائم من المعارف والأقرباء. ويقرأ في الصحيفة القديمة خبر تكريم والده كبطل إثر عودته من الحرب الكورية، التي شارك فيها كميكانيكي للطائرات، وعادت عليه بالإصابة والإدمان الكحولي.. فيزداد تعاطف ديفيد مع شخصية والده المجهولة لديه، وخاصة حين يسرقه ابنا شقيقه طمعاً بالجائزة، وحين تحرجه زوجته في المطعم، بسوقيّتها وتسلطها وإلغائها لشخصيته. ويزداد الأمر سوءاً حين يسخر منه شريكه السابق أمام الكهول ملوحاً بالورقة المزيفة، ليتلقى من ديفيد المسالم صفعة قوية تعيد للأب المهان كرامته… 

ولأن العناد سمة أساسية في سلوك كبار السن، بدا طبيعياً إصرار وودي على ملاحقة حلمه بربح المليون دولار لشراء الشاحنة الجديدة. وحين يتأكد في نبراسكا من زيف الجائزة يقفل عائداً بصمت مهزوم، فيبيع ديفيد سيارته ويشتري له شاحنة، ويترك له أمر قيادتها في بلدته تحت أنظار معارفه وأقربائه.. وفي تلك اللحظات فقط تتألق عيناه بألق ظفر تاقت إليه إنسانيته المتوارية خلف طبقات الانسحاق المزمن.. وقد أدى الممثل العجوز الدور بعفوية مذهلة تتناسب مع أعباء التقدم في العمر. وسهّل اختيار فصل الشتاء بكآبته الثلجية، وضعنا ضمن متاهات الزمن الأخير، وبالتالي مثّل طقس نبراسكا الدافئ انتقالاً ذكياً إلى عبق ذكريات الشباب. أما تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، فضمن تحييد المشاهد عن دور اللون في صبغ المراحل الحياتية بالحماسة والعنفوان، فانسابت مع الموسيقا الهادئة والجميلة، لتحافظ على استمرارية تعاطفنا الكامل، ليكتمل لحن الوداع بأبهى احتفاليته..

العدد 1104 - 24/4/2024