«رجل الحقيبة».. محاكاة فعل الخلق قتلاً

عقب نجاح فيلمه الأسبق »موسم القتل«، يعيد روبرت دي نيرو في فيلمه الجديد »رجل الحقيبة«، إنتاج مفهوم القتل بوصفه متعة خالصة.  فيذكي شعيرة العنف الموغلة في القدم، والمتكئة على غريزة الدفاع وحماية النفس من الأذى. ويستدعي إلى أذهاننا قصص صائدي العبيد المكرسين للأضاحي البشرية يوم اكتمال القمر، والتي مثلت عربدة جماعية لشهوة الكبرياء المغلفة بطقس القربان..

تدور فكرة الفيلم الذي أخرجه ديفيد غروفيك حول أستاذ جامعي ثري، ينتابه السأم من مهنته القائمة على التلقين والذي يمثل الانفعال أو المفعول به، فيقرر الانتقال إلى مباشرة الفعل أي دور الفاعل الذي يترجم بإدارة لعبة القتل والتخطيط لها من البداية إلى النهاية. فيعطي رجلاً مميزاً من أتباعه يدعى جاك حقيبة سوداء، ويكلفه بإحضارها ليلة اكتمال القمر إلى الغرفة الثالثة عشرة في الفندق المنعزل، حيث يتسلمها منه مقابل مبلغ كبير، بشرط عدم فتح الحقيبة ورؤية محتوياتها مهما كانت الظروف. ويكلف رجلاً آخر بتعقب جاك وإطلاق النار عليه في يده اليسرى وإتلاف هاتفه الخليوي. ثم يرسل قاتلة مأجورة في ثياب عاهرة إلى الفندق للتحرش به جنسياً. فتتشكل تدريجياً متاهة من الاستفزاز والتحدي المفضي إلى القتل والعنف تحت ستار المحافظة على الحقيبة ومحاولات انتزاعها من جاك. وأثناء ذلك يحطم الأستاذ بمتعة أنف سكرتيرته الشابة، بعد أن استدرجها لارتكاب هفوة قاتلة، ثم يعطيها مبلغاً كبيراً لإصلاحه حسب النموذج المفضل لديها.

أثناء انتظار جاك لصاحب الحقيبة، يخلق حواره مع العاهرة نوعاً من التعاطف الإنساني الذي يتعزز لاحقاً بهاجس الدفاع المشترك عن النفس، إذ يتبين الاثنان تورطهما في لعبة الكر والفر الدامية. وحين يقتحم عليهما الأستاذ الغرفة بحماية رجل ضخم، تتوضح نوعية اللعبة المأجورة وأبعادها، فالشرك بأكمله ملك للأستاذ من الفندق إلى القوادين فرجال الشرطة الفيدرالية.. مما يعني أن شراء الرجال بالمال لاستدراج الطريدة إلى المصيدة، ثم تقديم عرض قتالي حي، يوازي سهولة حذف الأرقام من الحسابات المصرفية التراكمية. فأهمية المال تتضاءل أمام متعة انتزاع إرادة الإنسان بتجريده من محاكمته العقلية وأسسه الأخلاقية وصولاً إلى انتزاع حياته. وبالتالي هي محاكاة تجريدية هزلية لرواية هرمان هيسه (لعبة الكريات الزجاجية) تختزلها كلمة سيد اللعبة، التي شغف بها الأستاذ وكلف جاك بقراءتها، الذي آثر التفكير بالمال الذي سيجنيه من الصفقة المشبوهة.

بعد تخطّى جاك الاختبارات القاتلة، يتبقى أمامه المطاردة الأخيرة في الغابة مع سيد اللعبة. حيث تتوضح الدوافع الكامنة للعبة، والتي تتلخص في غيرة إنسان خبيث فشل في الاحتفاظ بعلاقة أسرية طبيعية. فالأستاذ بعد ست انفصالات زوجية وثمانية أطفال بات عاجزاً عن رؤية سعادة إنسان آخر. وهو ما دفعه إلى قتل خطيبة جاك ووضع رأسها في الحقيبة السوداء، وإطلاقه في رحلة المطاردة، ومن ثم تفجير الفندق أملاً في قتل الشابة، لوأد أي بارقة حنان قد تضيء حياته. لكنها تبادر إلى قتله لاستلام مكافأتها من محاميه، والتي تم الاتفاق عليها مسبقاً مع الأستاذ مقابل تصفية جاك، والبالغة خمسة ملايين دولار، والرحيل بصحبة جاك فيما بدا سخرية التفافية من مشروع اللعبة وسيدها المنحرف.

مثلت معركة الغابة النهائية تحدياً لآلات القتل الثلاث: جاك الذي قتل طمعاً بالمال، والقاتلة التي احترفت القتل وسيلة للتكسب، وسيد اللعبة بوصفه تجريداً لشهوة الخلق عبر فعل القتل. وأعطت النهاية الإيجابية المتمثلة بمقتل سيد اللعبة، إيذاناً بانقلاب الاتجاهات وإفساح المجال لاستعادة بعض سمات الحالة الإنسانية المفقودة.

العدد 1104 - 24/4/2024