بدر الطويل… المناضل الشيوعي الذي رحل باكراً

من الصعب اختزال مسيرة مناضل شيوعي في بضعة أسطر، أو حتى في صفحات، أو كتاب. فعندما يمنح المرء أغلى ما يملك، وهي حياته، من أجل أنبل قضية للبشرية، وهي قضية تحرير الإنسان من القهر والظلم والتخلف والعبودية والجهل والفقر، وفي سبيل إقامة مجتمع تسوده الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم والرفاهية، يغدو كل يوم من هذه الحياة نفحة من الروح والعقل والقلب والجسد، يجدر معه أن تسطر حولها الملاحم.

تعرفت على (بدر غزّي) في أوائل عام 1959 عندما التقينا في المهجع الخامس في سجن المزة، وكانت عائلته قد عرفت في جبلة بهذه الكنية بعد عودتها من غزة فلسطين، بعد فترة من الهجرة إليها. وفي الحياة المشتركة في السجن (كما يحدث أثناء الخدمة الإلزامية) يتعرف المرء على السمات الأصيلة للإنسان الذي يعايشه، وتتكشف الطباع الداخلية الحقيقية دون تزوير أو تنميق.

لقد اجتاز (بدر) سواء في أقبية (المكتب الثاني) قبل وصوله إلى سجن المزة، أم خلال السنوات الثلاث التي قضاها في السجن، جميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي دون أن يهن أو يضعف، بقناعة راسخة بأن الصبر وتحمّل الآلام هي ضريبة طبيعية للإيمان بالأفكار التي يحملها الإنسان. وكم كان (أبو أحمد) في علاقته مع رفاق السجن بسيطاً وطيباً وخدوماً للجميع. ينشر الطمأنينة والثقة بالمستقبل بينهم، ويسرّي عنهم مع رفاق آخرين بإقامة السهرات وارتجال الأشعار و(التمثيليات) المرحة التي كان ينتزع بها الضحكات من قلوب (جمهور) المهجع.  وأثناء الحوارات التي كانت تنشب بين الرفاق حول هذه القضية الفكرية أو السياسية أو تلك، توفرت لديه الحكمة دائماً للتوصل إلى صيغة أو لغة يمكن أن يلتقي حولها الجميع وتطفئ غلواء هذا الرفيق أو ذاك، دون تنازل في الوقت ذاته عن المواقف المبدئية، مما كان يعبر عن شخصية قيادية حقيقية.

بدر هو ابن (جبلة) الساحلية. كان يعشق البحر، ويحب السباحة حباً جماً، وقد قام بتعليم أولاده والكثير من أبناء رفاقه وأصدقائه السباحة على أصولها. تمرس (أبو أحمد) في الخمسينيات من القرن الماضي في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، وقد عمل في منظمات الحزب في طرابلس وعكار. وكان يتنقل بينها وبين منظمات الحزب في الساحل السوري بأسماء مستعارة عديدة، واستقر بعد ذلك وخاصة بعد خروجه من السجن في مرحلة الانفصال في اللاذقية، حيث كلفه الحزب بالإشراف على إعادة بناء المنظمة في المحافظة، وقد أولى قضايا الفلاحين اهتماماً خاصاً، وكذلك قضايا الإصلاح الزراعي والعلاقات الزراعية، وخلال تلك الفترة توسعت المنظمة في أرياف جبلة وبانياس والقرداحة، وكذلك في أوساط العمال والطلاب والمثقفين، وفي الإدارات والمؤسسات العامة. كما عمل على إصدار نشرة خاصة لمنظمة الحزب في اللاذقية تحت اسم (الشراع). ولعبت هذه النشرة في حينه دوراً هاماً في التوعية والتثقيف على نطاق المنظمة. كما أولى التثقيف الحزبي اهتماماً خاصاً، وتقديم دراسات عن القضايا العمالية والفلاحية، وعمل على أرشفة وثائق الحزب، وتأمين موارد مالية للمنظمة.

عمل العديد من الكوادر والرفاق مع الرفيق بدر في تلك الفترة، ومنهم الرفاق طه الزوزو، وأحمد مكيس، ودميان سمعان، ومحمد حسن مرقبي (عدنان جمعة)، وبهجت حوش، ووجيه حيفا، وأنس قسام، وعبد العزيز حلوم وآخرون.

وحين برزت الخلافات داخل الحزب عشية المؤتمر الثالث (1969)، وأدت إلى مسلسل الانقسامات في داخله لاحقاً، بذل بدر جهوداً هائلة للمحافظة على وحدة منظمة اللاذقية. وقد استمر بنسج علاقات حميمة مع سائر الرفاق بغض النظر عن اختلاف المواقف والآراء.

في أواسط الستينيات أُرسل للدراسة في المدرسة الحزبية في الاتحاد السوفيتي، واعتبرها فرصة ثمينة،لا يمكن التضحية بأية ساعة منها من أجل فهم عميق للماركسية اللينينية، ليس من خلال حفظ الصيغ وتردادها، وإنما كمنهج للتفكير ودراسة الواقع المحيط وفق الظروف الملموسة، لاستشراف الآفاق، واستنباط الحلول العلمية والعملية في آن من أجل تغيير هذا الواقع. وقد استوعب بشكل خاص الأفكار التي كانت قد طرحت  عقب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي حول عبادة الفرد وما ينجم عنها من نتائج فكرية وسياسية وتنظيمية كارثية في حياة الحزب والبلاد.

وكان أن بدأ منذ عودته من المدرسة الحزبية بالسعي مع جيل من الرفاق سواء من الذين كانوا قد تخرجوا في المدارس الحزبية أو من الذي خرجوا من السجن، أو عادوا من المنافي، مع بعض الرفاق من قياديي الحزب المخضرمين، في الدعوة إلى ضرورة عقد مؤتمر للحزب بعد انقطاع دام نحو خمسة وعشرين عاماً، عمل الحزب خلالها دون برنامج سياسي أو هيئات منتخبة شرعياً. لقد غدا واضحاً لعدد كبير من هذه الكوادر أنه لم يعد من الممكن أن يقاد الحزب بالطريقة ذاتها التي استمر عليها طوال المرحلة السابقة.

وإذ تقرر التوجه نحو عقد المؤتمر أخيراً، وخلال الأعمال التحضيرية له، كان الكثير من الرفاق ومنهم بدر الطويل يطمح لأن يكون هذا المؤتمر فرصة لأن يدرس الحزب تجربته طوال ربع القرن المنصرم بروح مبدئية يستخلص منها العبر كي يتمكن من متابعة مسيرته على نحو صحيح وبناء. إلا أن البعض ارتأى أن أي إشارة نقدية لأي موقف من مواقف الحزب السياسية أو التنظيمية السابقة يعد إساءة لماضي الحزب، وهذا الأمر كان مرفوضاً رفضاً قاطعاً.

في أوائل حزيران 1969 انعقد المؤتمر الثالث للحزب، وقد وجه المكتب السياسي للحزب عقب المؤتمر رسالة إلى اللجان المنطقية قيّم فيها انعقاد المؤتمر باعتباره ذي قيمة تاريخية بالغة.

وجاء في تلك الرسالة:

(خلال السنوات العشر الأخيرة ظهرت بعض الأصوات التي تطالب بعقد مؤتمر للحزب، ولكنها أهملت، وكان من المفروض أن تستجيب الهيئات المسؤولة لهذا المطلب المشروع خصوصاً بالنسبة لحزب كحزبنا مضى على مؤتمره السابق ستة وعشرون عاماً. إن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء مثل هذه المواقف هي الحذر من مراجعة الماضي على أساس الانتقاد والانتقاد الذاتي، والتشدد أمام تقديم الكادرات، إضافة إلى الاعتماد على الأساليب القديمة).

ولذلك ورد في تقرير اللجنة المركزية في هذا الموضوع ما يلي:

(ولا شك أن عدم عقد المؤتمر ليس مصادفة، وإنما هو خطأ كبير طبع الحزب بطابعه طوال فترة طويلة من الزمان، وسببه الأساسي هو الخوف من الانتقاد والانتقاد الذاتي والثقة المبالغ بها بالنفس وبإمكان تجنب الأخطاء. والمسؤولية في ذلك تقع عموماً على اللجنة المركزية وعملياً على المكتب السياسي وعلي أنا الأمين العام بوجه الخصوص).

كما جرت الإشارة في التقرير إلى (تبني الحزب بعض المواقف فكرية وسياسية غير صحيحة خلال فترة من الوقت كموقفه من التأميم خلال أيام الوحدة وفي مرحلة الانفصال مثلاً).

وقد انتخب المؤتمر الثالث العتيد لجنة مركزية جديدة غير معينة تعييناً لأول مرة منذ أكثر من ربع قرن، وكان بدر الطويل في عداد هذه اللجنة المركزية.

عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً جددت فيه انتخاب الرفيق خالد بكداش أميناً عاماً للحزب وانتخبت مكتباً سياسياً جديداً من الرفاق: خالد بكداش، إبراهيم بكري، دانيال نعمة، رياض الترك، ظهير عبد الصمد، عمر قشاش، يوسف فيصل. وانتخب الرفاق دانيال نعمة، ظهير عبد الصمد، يوسف فيصل، مراد يوسف أمناء للحزب.

لم يقر المؤتمر الثالث للحزب برنامجاً سياسياً له. لذلك  فقد شكلت اللجنة المركزية لجنة لصوغ مشروع برنامج للحزب مؤلفة من الرفاق :خالد بكداش، ودانيال نعمة، ومراد يوسف، وبدر الطويل، وموريس صليبي.وتمت صياغة المشروع المطلوب فعلاً.

إلا أنه وفور طرح المشروع للمناقشة في صفوف الحزب برزت حوله خلافات ذات طابع فكري وسياسي وتنظيمي، ورغم أهمية تلك القضايا التي أثيرت فقد كان من الممكن معالجتها على نحو مبدئي يضمن استمرار وحدة الحزب، لو توفرت النوايا السليمة والحرص على هذه الوحدة من ناحية والحياة التنظيمية الداخلية الصحيحة داخل الحزب من ناحية أخرى، خاصة أن القضايا التي طرحت آنذاك كانت تتعلق إما بمواقف سابقة في تاريخ الحزب مضى عليها زمن طويل (الموقف من قرار التقسيم  الموقف من الوحدة  من الانفصال، من التأميمات.. إلخ) أو حول قضايا ذات طابع نظري، وليست مطروحة كمهام آنية ملحة (هل هناك أمة عربية أم أنها في طريق التكوين  قيام حزب شيوعي عربي واحد..الخ).

وقد جرت محاولة جدية للخروج من هذه الأزمة، بعقد مجلس وطني للحزب في تشرين الثاني من عام ،1971 طرحت فيه جميع القضايا المختلف عليها للحوار. وتدخل الرفاق السوفييت للمساعدة في ذلك، وتقدم بدر الطويل بمداخلة طويلة في المجلس المذكور قال فيها:

(إن تاريخ حزبنا قد صاغه النضال المثابر الدؤوب لكل الرفاق والمناضلين. فهو إذاً تاريخنا جميعاً. وفي الوقت الذي لا ينبغي السماح لأحد أن يتهجم على تاريخ الحزب، فلا ينبغي، كذلك، لأحد مهما بلغ أن يدعي بأنه وحده وبأن أفكاره وحدها، أو عمله وحده هو الذي صنع تاريخ هذا الحزب. إن تاريخ حزبنا، وإن شئتم تاريخ أي شعب، ليس مجموعة الحوادث والمعارك والمواقف التي وقفها أو خاضها فحسب، بل هو محصلة جميع تلك النشاطات المنسجمة والمتناقضة عبر مرحلة تاريخية معينة، هو محصلة جميع النشاطات الناجحة منها والفاشلة، محصلة جميع المواقف الصحيحة والخاطئة..هذه المحصلة هي تاريخ الحزب… إن تقييم تاريخ الحزب ضروري بعناصره الثلاثة : رؤية الجوانب الايجابية،ورؤية ودراسة المواقف السلبية والخاطئة، ثم استخلاص العبر من الوجهين).

وتابع موضحاً: (في الفكر سيدور النقاش إلى الأبد في حزبنا. اليوم نختلف حول الوحدة والمرحلة والحزب ا لعربي الواحد.. إلخ.. وفي غد سنتفق على العديد من القضايا كما قد نختلف على قضايا أخرى مثلاً: حول التصنيع، وحول تطور الرأسمالية في الريف.. وحول مفهوم الديمقراطية.. إلخ).

ويستطرد بدر الطويل قائلاً: (إن الخلاف في حزبنا لم يجر حول الماركسية اللينينية، وحول مبادئها الأساسية. فالماركسية اللينينية علم، والعلم لا يمكن أن يثير خلافاً عند أولي الألباب. إن الخلاف الدائر عندنا يتحدد جوهرياً في أمرين اثنين: أولاً: من فهم أو يفهم بصورة أكثر عمقاً واقع بلادنا وآفاقه. ثانياً: ثم كيف يمكن تطبيق الماركسية اللينينة على ظروف بلادنا. وإن مثل هذه الحال ستكون أبداً مبعث النقاش في الحزب، في أي حزب، وفي كل حزب).. (كأن بدر الطويل معنا اليوم)!

وختم الرفيق بدر الطويل وجهة نظره حول الموضوع بالتوجه إلى الجميع باقتراحه أن (يعلن الجميع التزامه بما سيقره المؤتمر القادم للحزب سواء جاء مطابقاً لآراء بعض  الرفاق كلياً أو جزئياً أو مخالفاً لها. مسألة الالتزام هي حلقة أساسية لا يمكن ولا ينبغي التساهل فيها. إنني أعلن التزامي بكل ما سيقرره مؤتمر الحزب المقبل).

إلا أن الأمور لم تسر، للأسف، وفق ما طمح إليه الرفيق بدر. وبدلاً من أن يعقد مؤتمر موحد للحزب، ويلتزم الجميع بما يقرره هذا المؤتمر، بغض النظر عن رأيه الخاص، فقد دخل الحزب بعد انتهاء المجلس الوطني في دوامة الانقسامات، فوقع الانقسام الأول بين جناح (خالد بكداش) وجناح ما سمي (المكتب السياسي آنذاك)، وتبعه لاحقاً انقسام جناح (منظمات القاعدة  مراد يوسف) عن جناح (بكداش) ومن ثم انقسام جناح (يوسف فيصل) عن جناح (بكداش). ونأى المئات من الرفاق والكوادر بأنفسهم عن هذه الانقسامات، ولم ينضووا تحت لواء أي من هذه الأجنحة.

أما في الطرف الآخر (جناح المكتب السياسي)، فقد عاد الرفاق (الثلاثي:دانيال وظهير وإبراهيم) إلى جناح (بكداش) بسبب سوء الطريقة التي تعامل فيها رياض الترك معهم من ناحية. فضلا عن عوامل أخرى. وإثر ذلك لم يبق من أعضاء المكتب السياسي الناجم عن المؤتمر الثالث في هذا الجناح سوى رياض الترك وعمر قشاش.

ولذلك عندما عقد هذا الجناح مؤتمره الخاص، انتخب لجنة مركزية ومكتباً سياسياً ضم في عداده بدر الطويل وعمر قشاش ويوسف نمر وفايز الفواز وواصل فيصل وميشيل عيسى ونبيه جلاحج وجريس عيسى وآخرين، كما انتخب رياض الترك أميناً عاماً. وهنا توجه (الترك)  بعد أن كان قد تخلص من الرفاق (الثلاثي) نحو تصفية رفاقه الآخرين الذين لا ينسجمون مع آرائه وأساليبه  في العمل واحداً تلو الأخر. وكان أن بدأ بإبعاد (بدر الطويل) عن عمله في المكتب السياسي بطريقة تآمرية، فقد قطع عنه راتبه كمتفرع حزبي. وباعتبار أن ليس لبدر أي مصدر دخل آخر فقد اضطر إلى مغادرة دمشق للبحث عن عمل، فعمل في البداية في اللاذقية على جبالة باطون، ثم سائق شاحنة (تريللا)، وأخيراً عاد إلى دمشق ليعمل في (منجرة) صديقه (نمر نصار) لصناعة المفروشات المنزلية..

على هامش ذلك لا بد لي من ذكر حادثة ذات مغزى بالغ عن هذا الرجل: في أحد الأيام كان يعمل وحيداً في المنزل في قص البلاط بواسطة (صاروخ الجلخ). وفجأة انكسر الصاروخ وتطايرت قطعه، وأصابت إحداها ساعده الأيسر وقطعت الساعد حتى العظم، وبقي الساعد معلقاً بقليل من اللحم والجلد، وكان أن حمل بيده اليمنى ساعده الأيسر المقطوع، وانتقل بسيارة  أجرة من منزله في حي الميدان إلى مشفى المجتهد حيث أعيد ربط الساعد المقطوع إلى مكانه وسط دهشة فريق الإسعاف في المشفى من أطباء ومساعدين.

بعد فترة من عمل هذا الجناح (رياض الترك) كانت قد انفصلت عنه مجموعة من الكوادر إما نتيجة إبعاد البعض منها من قبل (الترك) ذاته، أو بابتعادها هي نفسها عنه للعديد من الأسباب الفكرية والسياسية والتنظيمية. ونظراً لعدم رغبة هذه الكوادر بتشكيل (جناح) إضافي للأجنحة الموجودة أصلاً، وطموحها إلى إعادة توحيد الحزب المجزأ. فقد تآلفت نحو ما سمي (بحركة اتحاد الشيوعيين) في سعي من هذه المجموعة نحو إعادة وحدة الحزب. وجرت الصلات فعلا مع جميع الفصائل الشيوعية الموجودة على الساحة السورية آنذاك، فضلاً عن مجموعة الدكتور بدر الدين السباعي ونجاح الساعاتي وسميح الجمالي ورفاق آخرين، وبذلت جهود حثيثة وحوارات جدية معهم جميعاً. إلا أنه وفي المرحلة الأولى لم تجد تجاوباً إلا من فصيل الرفيق يوسف الفيصل.

لم يكن إقناع الرفاق سواء في (الحركة) أم في فصيل (الفيصل) بعملية التوحيد سهلاً. فالعديد من الكوادر هنا وهناك كان لديه تحفظات كثيرة فكرية وسياسية وتنظيمية وأحياناً على أشخاص محددين لدى الفريق الآخر ناجمة عن رواسب الأزمة، وكان للرفيق بدر دور إيجابي فاعل في هذا الشأن، وأثناء اللقاءات بين الطرفين كان له موقف مميز: نحن ندرك أن بيننا خلافات كثيرة وجدية لن يفصل بها النقاش، ونحن لا نشترط من خلال التوحيد الحصول على مناصب معينة، ذلك أننا نرى أن الحياة هي التي ستحسم في النهاية معظم القضايا المختلف عليها اليوم، كما أن الممارسة العملية ستضع كل رفيق في المكان المناسب. ولكن الأمر الوحيد الذي نصر عليه هو الحياة التنظيمية السليمة التي تضمن التنوع من ناحية، ووحدة الحزب من ناحية أخرى، بغض النظر عن هذا التنوع، والتزام الجميع بما تقرره الهيئات الحزبية الشرعية في نهاية الأمر.

وفي 29-31 كانون الثاني 1986 عقد المؤتمر السادس للحزب الذي تم فيه توحيد (حركة اتحاد الشيوعيين) وفصيل الرفيق يوسف الفيصل.

يقول بدر الطويل في مداخلته في المؤتمر السادس(كانون الثاني 1987)

(طرح إبان أزمة الحزب العديد من الأفكار، العديد من البرامج. ومن يقرؤها يجد فيها ما يجعل المرء متفائلاً. طرح الفكر المتطرف، طرح الفكر النخبوي، الفكر المحافظ، الفكر المتعاون.. ولم يستطع أحد من الأطراف أن يحقق ما يمكن التحدث عنه بفرح وافتخار…).

(لقد أخطأنا جميعاً، وجميعنا مسؤولون عما يجري في الحزب، ومسؤوليتنا هذه لا ينبغي أن تذهب سدى، أن تذهب دون عقاب، العقاب هنا هو إيجاد البديل الجدي : الحزب الشيوعي الموحد القوي الذي يحقق مطامح شعبنا).

وبعد ستة عشر يوماً فقط من انتهاء المؤتمر السادس، وبعد عودته لتوه من حضور مؤتمر للحزب الشيوعي اللبناني، في السادس عشر من شباط ،1987 ولم يكن قد تجاوز السادسة والخمسين من العمر، رحل بدر الطويل بعد أن استهلك قلبه واستنفذ كامل جهوده وطاقاته من أجل تحقيــــــــــق مأثرة حقيقية بإنجاز أول عملية توحيــد في تاريخ الحزب.

لاحقا تمت عملية التوحيد مع (منظمات القاعدة) في المؤتمر السابع للحزب في 11-14 تشرين الأول من عام 1991. وبذلك يمكن القول إنه قد توقف مسلسل الانقسامات الذي استمر طوال عقد من الزمن ليحل محله إنجاز عملية توحيد مبدئية للحزب على أسس جديدة تضمن الحفاظ عليها.

لقد نص النظام الداخلي الجديد للحزب على أن التنوع في إطار الوحدة يصون حرية التفكير والاجتهاد والاحترام المتبادل للآراء، ويحفظ حق الأقلية بإيصال آرائها إلى الحزب…ضمن الأقنية الشرعية  المنصوص عليها. وتمت تسمية الحزب أخيراً (بالحزب الشيوعي السوري الموحد).

ونستذكر اليوم ما قاله بدر الطويل منذ أكثر من أربعين عاماً في كلمته أمام المجلس الوطني للحزب :

(بحكم موقع بلادنا، تتعرض باستمرار لتطورات أو تغيرات عاصفة وعميقة أحياناً. وإذا ما جرى مثل هذا وطرحت أمامنا مجموعات كبيرة متنوعة ومعقدة من المهمات تتبلور حول محاور متعددة وبالغة التعقيد، ومعلوم أن مثل كبر هذه المهمات وتعقدها سيثير مواقف متباينة في الحزب إزاءها رغم استنادنا جميعاً إلى الماركسية اللينينية، فكيف يمكن أن نبقى موحدين، وفي حزب واحد رغم اختلاف وجهات النظر إزاء بعض القضايا).

هنا يؤكد بدر الطويل: (إنها مسألة الالتزام التي لا يمكن ولا ينبغي التساهل فيها).

العدد 1104 - 24/4/2024