فرحان بلبل.. شيخ المسرح السوري وحارس الرسالة الإنسانية

علاء زريفة:

في مدينة حمص المحافظة، حيث كانت أضواء المسرح تبدو خافتة أمام عادات وتقاليد راسخة، وُلد محمد فرحان بلبل عام 1937، في أسرة عريقة احتضنت العلم والفقه. لكنّ الفتى، الذي ورث من أجداده حب العلم، اختار أن يخطّ لنفسه طريقاً مختلفاً، بعيداً عن النمط السائد في بيئته. أراد أن يجعل من المسرح وسيلة لتجسيد قضايا الناس، وميداناً يثير الأسئلة ويصوغ الحكايات.

في مدينة حمص المحافظة، حيث كانت أضواء المسرح تبدو خافتة أمام عادات وتقاليد راسخة، وُلد محمد فرحان بلبل عام 1937، في أسرة عريقة احتضنت العلم والفقه. لكنّ الفتى، الذي ورث من أجداده حب العلم، اختار أن يخطّ لنفسه طريقاً مختلفاً، بعيداً عن النمط السائد في بيئته. أراد أن يجعل من المسرح وسيلة لتجسيد قضايا الناس، وميداناً يثير الأسئلة ويصوغ الحكايات.

في كل خطوة من مسيرته، بدا فرحان بلبل مثالاً للالتزام والإصرار على تحويل المسرح إلى صوتٍ للناس، ونافذة تطلّ منها قضاياهم، وآلامهم، وأحلامهم. ولهذا استحقّ لقب شيخ المسرحيين السوريين.

لم يكن المسرح بالنسبة إليه مجرّد فنٍ للفرجة أو وسيلة للترفيه، بل كان رسالةً عميقة، وأداة مقاومة فكرية وثقافية تواجه التحدّيات وتنحاز إلى الحقيقة.

رحل بلبل، لكنه ترك خلفه إرثاً مهماً من الإبداع التنويري، الذي جمع ما بين قوة النص وجمال الأداء المسرحي. كان مؤمناً بأن المسرح هو المرآة التي تعكس مشكلات المجتمعات، وبأن رسالته تتجسّد بإعادة الإنسان إلى جوهره الحقيقيّ، بعيداً عن الزيف والاغتراب.

في مواقفه الجريئة، دعا للعودة إلى المسرح البسيط، (المسرح الفقير)، الذي يعتمد على الإبداع بدلاً من الاستعراض، وعلى القرب من الناس بدلاً من الركون إلى المؤسّسة البيروقراطية. كان يحلم بمسرح ينبض بروح الشباب القادرين على تجديده، وإعادة الشرعية إلى فنٍّ يحمل في جوهره مهمّة معالجة القضايا الاجتماعية العميقة.

 

(البدايات)

بدأ بلبل حياته العملية معلّماً للّغة العربية بعد تخرّجه في جامعة دمشق عام 1960، لكن شغفه بالمسرح كان أقوى من حدود الوظيفة. لم يلتحق بمعاهد أكاديمية متخصصة، بل اعتمد على نفسه كلياً، فجاب المحافظات السورية، خصوصاً دمشق، ليشاهد المسرحيات، وليغوص في عوالمها. خلال تلك الرحلات، كان يلتقط من كل عرض فكرة، ومن كل مشهد خبرة، ليعيد صياغتها بأسلوبه الخاصّ.

كتب أول نص مسرحيّ له في العام نفسه بعنوان (الثأر الموروث). تناول النص قصة أسرة فلسطينية هجّرت بعد النكبة، فتحولت آلامها وذكرياتها إلى رمز للمأساة الوطنية والشخصية. كان هذا النص بمثابة الحجر الأول في صرح مسيرته المسرحية، التي لم تعرف التوقف رغم كلّ التحدّيات.

اقتحم بلبل عالم المسرح في مدينة حمص، وسط مجتمع محافظ ينظر إلى هذا الفن بحذر. لم يقتصر على تجاوز العقبات الشخصية، بل جعل المسرح شأناً عائلياً، حين أدخل أبناءه وبناته في هذا المجال، معتبراً أن الفن إرثٌ يستحق أن يمرّ عبر الأجيال.

في عام 1968، بدأت خطواته الجادة في الكتابة والإخراج المسرحي، حيث جمع ما بين النصوص الأدبية الرصينة والإخراج المبتكر. خلال هذه الفترة، ألّف أكثر من ثلاثين نصاً مسرحياً، منها ستّة نصوص موجّهة إلى الأطفال، وأعاد صياغة ستّ مسرحيات أخرى، مقدّماً أكثر من أربعين عملاً مسرحياً عرضت في سورية والعالم العربي، وبعضها وصل إلى الشاشة الصغيرة.

 

خلق منصة للمسرح العمّالي

أسس بلبل في عام 1973 (فرقة المسرح العمالي) تحت مظلّة اتحاد عمال حمص، مبتكراً مفهوماً جديداً للمسرح، فلم تعد العروض حكراً على المدن الكبرى أو القاعات المغلقة. أخذت الفرقة عروضها إلى الأرياف والمناطق العمالية، ليصبح المسرح قريباً من الناس ومعبّراً عن همومهم اليومية.

قدّمت الفرقة أعمالاً مميزة، مثل: (الممثلون يتراشقون الحجارة، والعشاق لا يفشلون، لا تنظر من ثقب الباب، والجدران القرمزية)، إضافة إلى نصوص سورية مشهورة، مثل (الملك هو الملك) لسعد الله ونوس، ونصوص عربية شهيرة مثل (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور. كذلك استلهمت نصوصاً عالمية مثل (الجرّة المحطّمة) لفون كلايست، و(ثمن الحرية) لعمانوئيل روبلس.

وجّه بلبل في عام 1979 بوصلته نحو الأطفال، فأصبح من أوائل المبدعين في مسرح الطفل السوري. كتب وأخرج نصوصاً مثل (البئر المهجورة، الصندوق الأخضر) محاولاً تقديم رسائل تربوية في إطار مشوّق وجاذب.

 

صنع إرثاً خالداً

لم تقتصر إسهامات فرحان بلبل على الكتابة والإخراج، بل كان ناقداً مسرحياً بارزاً نشر عشرات المقالات والدراسات التي تناولت المسرح العربي والسوري. أصدر 10 كتب نقدية شكّلت مرجعاً للباحثين والمسرحيين، منها: (المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة، أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي، ومن التقليد إلى التجديد في الأدب المسرحي السوري). جُمعت نصوصه المسرحية وحواراته في (المجموعة الكاملة) التي صدرت في خمسة مجلدات عام 2001، لتكون شاهداً على مسيرة امتدّت لعقود.

إلى جانب ما سبق، عمل منذ عام 2005 رئيساً لتحرير مجلة (الحياة المسرحية) التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، واستاذاً لفنّ الإلقاء في المعهد العالي للفنون المسرحية.

نال بلبل تقديراً واسعاً خلال حياته، فقد كرّمه مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1995 كأحد أبرز المسرحيين عالمياً، كما كرّمته وزارة الثقافة السورية في مهرجان دمشق للفنون المسرحية الثاني عشر عام 2004، تقديراً لمسيرته الإبداعية، وتفانيه في تطوير المسرح.

رحل محمد فرحان بلبل عن 88 عاماً، لكنّ طيفه يظل ماثلاً على خشبات المسرح وفي أرواح من تأثروا بفنه وفكره. جسّد بلبل بجهوده الحثيثة التزاماً استثنائياً بتحويل المسرح إلى نافذة تعكس قضايا المجتمع وأحلامه، رافضاً الاستسلام لقيود المادية والمؤسسية.

لقد كان صوته صدى لقضايا الإنسان، ومسرحه ميداناً للجرأة والتجديد. لا يقتصر على النصوص والعروض، بل يشمل فلسفة راسخة تؤكد أن المسرح رسالة، تتطلب الإبداع والالتزام ليبقى منارة تهدي الأجيال القادمة في عالم متغير.

 

المصدر:  النهار

العدد 1140 - 22/01/2025