رحيل تيسير السعدي… «شيخ كار» الإذاعة والفن

في زمن الحرب والموت يرحل الفنان تيسير السعدي بصمت وهدوء عن عمر ناهز 97 عاماً، يمر خبر رحيله عادياً وقد صار الموت حدثاً يومياً تقليدياً على مدى سنوات الحرب، لكنه يعيد للذاكرة مسيرة فنان كبير وصل صوته إذاعياً إلى كل السوريين في أجيالهم التي عاشت أزمنة الحب والبساطة والجمال.. ويفتح رحيل السعدي صندوق الذاكرة المعتق لاستعراض شريط الإذاعة السورية في بداياتها وفي سنواتها الذهبية، وكذلك الشاشة السورية أيام الأبيض والأسود وصولاً للمبكي هذه الأيام حيث تجاوز الواقع بقسوته ودمويته كل خيالات الظل وحكواتية السير والحروب.

في تلك الأيام الخوالي، كانت الحياة أكثر عفوية وأقل تعقيداً وأشد قرباً وحميمية، والتفاصيل اليومية لحياة الناس العاديين، وقتها كان (صابر وصبرية) العمل الإذاعي المفضل الذي يأتي بالمقام الأول عند المستمعين ويحتل الصدارة بين تلك الأعمال الأصيلة، وكان بطلاها الفنان تيسير السعدي وزوجه الفنانة صبا المحمودي، فكانت أحد النماذج الناجحة للفن الشعبي الذي كان السعدي من أشد المتحمسين له منذ بداياته المبكرة.

بدأ السعدي عشقه للفن منذ كان طالباً في معهد (اللاييك) عام 1935 وكانت تلك أول مرة يقف فيها على المسرح، ثم قام بعدة أدوار تمثيلية عام 1936 في أندية دمشق الفنية، وسافر إلى مصر ليتابع دراسته ويحصل على دبلوم معهد التمثيل في القاهرة، ويتعرف هناك على رجالات فكر وسياسة أثرت في شخصيته كان بينهما إحسان عبد القدوس ونجيب الريحاني، وبعد عودته إلى سورية بدأت المرحلة الأهم في حياته الفنية، بدأ يخرج ويمثل في إذاعة دمشق الأشبه بخلية نحل على مدار الساعة، حتى بلغ رصيده الآلاف مـــن التمثيليـــات الإذاعية إلى جانب القصاص الشعبي، حكمت محسن (أبو رشدي) الذي شكل معه ثنائياً ناجحاً حمل لواء الفن الشعبي، وشكل مع مجموعة من الفنانين الرواد فرقة فنية للتمثيل والموسيقا، حيث كان لكل منهم (كاركتر) خاص به وأبرزهم حكمت محسن (أبو رشدي)- أنور البابا (أم كامل)- فهد كعيكاتي (أبو فهمي)- رفيق سبيعي(أبو صياح)، قدمت الفرقة العديد من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية التي ملأت شهرتها الآفاق، وأصبحت حديث الناس.

 يذكر السعدي في أحاديث صحفية كيف أشعلت أعمالهم نقاشات حادة في البرلمان السوري، فقد تعرضت أعمالهم للنقد الشديد وهاجمها صلاح الدين البيطار في البرلمان بحجة أن هذه الأعمال تسيء للغة العربية وتقدم باللهجة المحكية، وطالب بإيقافها فوراً، غير أن زعيم الحزب الشيوعي آنذاك خالد بكداش تصدى له وانبرى للدفاع عن الأعمال الفنية للفرقة بضراوة وحماس.

شارك تيسير السعدي في أعمال مسرحية وسينمائية عدة، فكانت له تجربة مع الفنانة فاتن حمامة في فيلم (الهانم)، وكانت مشاركة في فيلم (الرجل) المأخوذ عن نص للكاتب سعيد حورانية، أما في التلفزيون فقد عمل الفنان الراحل مع نجوم الشاشة السورية دريد ونهاد في (صح النوم) و(الدنيا مضحك مبكي) كما شارك في دراما البيئة الشامية من خلال (أيام شامية).

وعلى مدى 97 عاماً من حياته قضى جلها في التمثيل والإخراج للإذاعة والتلفزيون والمسرح بقي السعدي مخلصاً لتقاليد المهنة والالتزام بالعمل، وروى في حوارات صحفية كيف كان الفنانون يهابونه ويحسبون له ألف حساب عندما يكون في (الكونترول) لتقديم عمل إذاعي، لأنه لم يكن يتهاون في أي إهمال، فالعمل عنده مقدس وفوق كل الاعتبارات، وذكر أنه طرد عدداً من الفنانين لإهمالهم أدوارهم بل عمل بدلاً منهم مستفيداً من ملكته العالية في تقليد الأصوات.

في سنواته الأخيرة اعتكف تيسير السعدي في بيته مهملاً منسياً، لتعيده الصحافة السورية إلى الواجهة، ثم لتستعين به بعدها احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية (2008) ليقدم حواريات ضمن فعالية (نادي الذاكرة)، وتصدر كتاباً عنه للكاتبة ميسون علي حمل عنوان (تيسير السعدي.. ممثل بسبعة أصوات).

تيسير السعدي وقد احتفظ بذاكرة لم تشخ، يرحل وهو شاهد على قرن، فقد عاش الفنون كلها وعمل فيها بكل مراحل تطورها من خيال الظل إلى الفضائيات الرقمية، وعاش مراحل تطور الحضارة من (الكانون) إلى (المكيفات)، ومن الفانوس إلى الكهرباء، ومن الكتابة بقلم القصب إلى (الكومبيوتر)، ومن الهواتف التي تُدار يدوياً إلى الهواتف الذكية..

العدد 1104 - 24/4/2024