حيرة التوهج العقلي المصنع

أضيئت هياكل الأشباح بفيض العقل الكلي، وُكتب عليها الدوران في محراب العلم المتوج بالوجد المعتق. واستقرت قمصان الأجساد حجباً لصفاء البصيرة، فتضاعفت الظلمات مع الإيغال في التعلق بمناسك الحياة المادية وأمجاد الصيرورة الكاذبة، وارتهنت رحلة العودة إلى المنبع بتناقص الكثافة الثقيلة. وبالتالي ترافق التوهج العقلي مع سعة الإدراك المتكئ على فهم الغواية الحسية وأحابيلها. هذه الفكرة يقاربها الفيلم الأمريكي Lucy))، الذي حظي بشعبية واسعة لدى عرضه بفضل بطلته المتألقة سكارليت جوهانسبورغ.

يستند الفيلم إلى حقيقة علمية تقول باستخدام الإنسان العادي لعشرة بالمئة فقط من قدرات دماغه الكلية، حيث تتحول المساحات المتبقية إلى مجالات مغلقة تستدعي التساؤلات والتكهنات. فإذا افترضنا وجود منشط كيماوي يفعّل قدرات الدماغ وصولاً إلى النسبة القصوى، كما حصل مع بطلة الفيلم لوسي، عندئذ تكون الفرصة مواتية للتحقق من صحة المعادلة الكونية حول تناسب التدفق العقلي عكساً مع الكتلة المادية للجسد البشري، وتبعاً لنوعية الأفكار التي تجتاز صفحة الدماغ.

تُدفع لوسي قسراً للتورط مع إحدى المافيات الآسيوية، التي تستخدم أجساد ضحاياها من الطلاب والمعدمين لنقل أكياس من المنشطات الكيميائية. وبسبب محاولة اغتصاب عنيفة يتمزق الكيس داخل جسد لوسي لتتسرب المادة الزرقاء إلى خلايا دماغها فتتنشط قدراتها العقلية بشكل مذهل، وتتحرر من خاطفيها وتنتقم من جلاديها لتغدو طريدتهم. وتبدأ سلسلة من المطاردات البوليسية بغية استعادة الأكياس تنتهي باغتيالات دموية متوزعة على المناطق الأوربية التي أرسلت إليها الشحنات.

أما لوسي فبعد استخراج الكيس من معدتها تبدأ رحلتها السريعة نحو تجاوز محدودية الشرط الإنساني. إذ يكفل التهام المسحوق الأزرق، ارتفاعاً تدريجياً للتوهج العقلي، المتلازم مع اتساع الإدراك التلقائي للأفكار والمشاعر في البيئة المحيطة. فتنتفي الحاجة إلى الطعام والشراب، وتكتسب القوة البدنية أبعاداً أسطورية تقلص المكان والزمان، لتنتهي إلى التحكم النسبي بحركات الأفراد. وهي تجربة تستدعي إلى الذهن مآثر القديسين حين تصفو نفوسهم وترق حجابات أجسادهم المادية فتعلو الروح ممثلة بذروة التوهج الفكري. ولأن تجربة لوسي جاءت نتيجة تحريض خارجي، بقي العقل منفصلاً عن إرادة الروح، وبالتالي غريباً عما نلمسه في التجربة الصوفية من إلغاء لأبعاد الجسد في الزمان والمكان والموافق لرمزية الصليب بمعناه العرفاني. فتبدو لوسي مذهولة كلياً بالتحولات الطارئة عليها، وينصب حرصها الأساسي على نقل تجربة الشحن الدماغي إلى العلماء المهتمين في قالب شريحة إلكترونية تضم المعلومات المتحررة كطاقة صرفة بعد تلاشي الجسد. رغم أن الأفكار لا تحتاج إلى شريحة جامعة تنقل إلى الكائن البدائي النياندرتالي كما ظهر في نهاية الفيلم، فهي  متاحة خارج إطار الزمان والمكان.

أوصل صناع الفيلم من الناحية التقنية فكرة جيدة داعبت مخيلة العلماء على مر العصور، لكنه وقع في مطب الفخ التجاري الذي يحول أخلاقية الجهد الإنساني لبلوغ الانعتاق إلى مسألة تنشيط حسابية متاحة للمغامرين والمستثمرين. بعكس الفيلم الأمريكي Transcendence) ) الذي سخر تلاشي الجسد لصالح تكامل العقل البشري واندماجه في كلية الرحابة الكونية، وتحوله بالتالي إلى مرمم للطبيعة المتضررة بفعل حماقات الإنسان وجشعه التدميري. وبذلك يكون قد خدم الانسجام والتناغم الكوني بدلاً عن تنشيط الدماغ صنعياً وتحويل الطاقة إلى كيان معلق في أحد الأبعاد المجهولة.

العدد 1104 - 24/4/2024