عنف التاريخ وضراوة الأمل

تجلو معادن البشر، فتعلو هامات وتسمو بحسها الإنساني النبيل، وتتردى أخرى في بهيمية السقر الوحشي. وتنوس الأنفس المتصارعة بين حدّي الشجاعة والجبن، فترتحل مصائر مستنزفة مجبولة بشفاعة الغفران، بينما أحداق مفرغة تنفتح على هوة جحيم مرصود. ويترك للتاريخ مهمة تدوين العنف وترددات القسوة وعصف الخيانات والضغائن.

الحرب دراما الملاحم العظمى، حيث تتجاور البسالة والشرف مع الخسة والغدر، البطش مع الرحمة والرأفة، التعاطف مع الخذلان، الأمل مع اليأس، الإيمان مع الإلحاد.. وهو ما نلمسه في فيلم براد بيت الأخيرFury) ) الذي احتل المركز الاول في شباك التذاكر لشهر تشرين الاول الماضي. فقد تلبس بمهارة عالية دور قائد عسكري لفرقة مدرعات أميركية  تناط بها مهمة تصفية النازيين.

تدور الأحداث ابان الحرب العالمية الثانية فوق الأراضي الألمانية، حيث يتقاتل الخصمان الامريكي والنازي بشراسة،فتتساقط البلدات وتتهدم القرى وتحرق المباني. ووسط صخب الرجال يصل جندي شاب يدعى نورمان إلى مكان الفرقة، بعد أن أرسل من القيادة ليملأ المكان الشاغر في المدرعة الأساسية المسماة Fury))، أي الحنق والضراوة. ومعه يتم رصد التحول الجذري الذي يطرأ على الإنسان المسالم الرافض لمبدأ العنف والقتل. فنورمان يعمل ضارب آلة كاتبة سيق الى الجندية دون تدريب مسبق ليقذف رغم احتجاجاته إلى داخل المدرعة لانتشال بقايا جثة سلفه فتكون صدمته الأولى مع بشاعة الحرب. لتتوالى بعدها دروس القدر القاسية من اجباره على قتل أسير ألماني، إلى تسببه بمقتل بعض رفاقه لتخاذله في تنفيذ الأوامر، مروراً بالكثير من المواقف المذلة. ثم يحدث الانقلاب في مسلكه حين يدرك أبعاد لعبة الكراهية والعنف، ونسبية الشجاعة ومبادئ الحق لدى الطرفين المتحاربين، فتبرز الحاجة لتخطي التردد وتقبل واجبه في مساندة رفاقه. بالمقابل نعاين الجانب الإنساني الكامن في شخصية القائد الصلب الذي اعتاد التنقل من نصر إلى آخر، حتى غدت القسوة والحزم ديدنه. إذ يدرّب نورمان الضعيف الجبان ليغدو رجلاً، يهيئه ليتخطى سخرية زملائه، ثم  يفسح له المجال أثناء اقتحام أحد المقار الألمانية،وبعطف وحنو الأب، كي يعيش عاطفة الحب الجميل في قلب الظرف المستحيل. مما يستجر غيرة رفاقه وتذمرهم الذي كاد أن يتطور إلى تمرد لولا حنكة القائد ومحبته الكبيرة لهم.

تتدافع مشاهد الحرب لتنقل صخب القتال وضراوته، الترقب والانتظار، الصبر والمعاناة،  شجاعة الرجال وبأسهم، حزنهم على رفاقهم القتلى، غيرتهم من بعضهم وافتقادهم الجارف لعواطف الحنان والرأفة. ويصل الشحن الانفعالي إلى ذروته مع خسارة القائد لمدرعاته وجنوده في كمين، ثم إصراره على البقاء مع مدرعته المتبقية المعطوبة في موقعه المحاصر عند نقطة التقاطع. فيجد الرفاق الأربعة أنفسهم في موقف حرج إثر تقدم النازيين، إذ يؤكد الخوف اقتراب الموت الوشيك إما قتلاً مباشراً أو تعذيباً بطيئاً اشتهر به الجلادون. وتكون المفاجأة بموقف نورمان الذي يختار البقاء والدفاع عن موقعه مع قائده. فيتعبه الباقون لتجري معركة استثنائية بين القوات النازية وعناصر المدرعة. تنتهي بموت الرفاق مع قائدهم إثر نفاذ الذخيرة ونجاة نورمان باختبائه تحت الدبابة.

لم يغفل الفيلم إبراز تغاضي الجندي الألماني الفتي عن منظر نورمان المختبئ، ليثبت ان الإنسانية تنتصر حتى في أحلك اللحظات، وأن تقدير الشجاعة والبسالة إنما يأتي من ذوي النفوس الكبيرة لا الخسيسة الدنسة.

 أبرز المخرجDavid Ayer) ) حميمية اللحظات الأخيرة التي تشارك فيها الجنود مع قائدهم نبضات الخوف العميق المسكون برجاء الإيمان وشفاعة الغفران السماوي، فأعطى لعمله قوة الأمل إبان عصف التاريخ.

العدد 1105 - 01/5/2024