أنا التي رأيت

أنا التي رأيت.. ورق الحور الأصفر يقاوم السقوط ولكنه يسقط أخيًرا ويتكوم على حافة الطريق الذي يصعد نحو الشرق حيث بيوت تضيع وراء السرو، ومزرعة تخبئ باباً وطاولة ومقعداً يتسع لاثنين… هي تمسح دمعتها التي تنزل على خدها، وهو يركب سيارته ويدوس بعجلاتها الشرسة ورق الحور الأصفر.. هكذا يبدو… كل الذين يسقطون لا بد أن تأتي عجلة ما… قدم ما… زمن ما… دهس ونسيان… لكن ألا يحدث أن يسقط الورق الأصفر دون إرادته؟

رأيتُ أيضاً… امرأة تسقط في جبّ الهلاك، تقضم الصبر وتعلّم صغارها أن يحبّوه… ترشف القناعة… الشاي والقهوة… لكنها أخيراً تكسر الكؤوس والفناجين وتسأل بحرقة: (أي امرأة أنا؟)… وتجيب بصوت منكسر: أنا التي أهرق جزءاً من عمري على البلاط، وآخر في أواني الغسيل، وثالث في مكتب الوظيفة… ورابع في المجاملات، وخامس في الشجار المريع مع رجل لا يريد أن يعترف بأن المرأة العاملة أكثر اضطهاداً من جدتها التي كانت تهتم فقط بشؤون المنزل ثم تتبرج وتنتظر عودة السيد…

ورأيتُ امرأة تبكي على باب بيتها… الرجل يركلها وهي تمسك بيديه وقدميه كي يبقيها ترعى الأولاد فقط… تنظف ثيابهم وتمشط شعرهم كل صباح… تجهّز الإفطار وتنتظر عودتهم كي يحبوا الرجوع إلى المنزل أكثر من الدوران في أسواق المدينة.. لكن… كل دموع تلك المرأة ظلّت على العتبة… دخل الرجل وأقفل الباب خلفه… نزلت المرأة إلى الشارع… قرعت الأبواب النحاسية اللمّاعة: (هل تريدون خدامة؟).

لكن النساء اللواتي لا تراهن الشمس في السنة إلا مرات معدودات… رفضن المساعدة.. أتعرفون لماذا؟.. لأنها جميلة.

رأيت أيضاً ريح الشمال هذا الصباح تفرّق ورق الحور وتمشطه كشعر امرأة، ورأيت أن الأيام تركض والزمن الاستهلاكي مريع ومخيف… ورأيت أن لا قيمة لشيء كهذا الورق المتناثر المسحوق، هناك فقط المادة، مازلت أذكر رجلاً عجوزاً كان يردد على مسامعنا: (معك قرش تساوي قرش) أحقاً ذلك؟!

والذي معه ذاكرة وموهبة وقوة بصيرة، والذي يملك المعرفة ويدير الأمم ماذا يساوي؟

لكني أنا التي رأيت الشباب يكفر بكل شيء إذا لم يرتدِ الجينز الأمريكي ويضع العطر الفرنسي ويركب السيارة اليابانية…

وأنا التي رأيت بشراً يقيّمون بشراً من خلال سياراتهم وقصورهم، أي من خلال القشور الزائلة وليس من خلال الجوهر…

ياه !! كأني أرى هذا الصباح شتاءً مريعاً قادماً… وكأني أتلمس ثلوجاً تهطل في الذاكرة والجسد…

 كأني أرى طريق قريتي المغسول مطرزاً بورق الحور الأصفر.. فتخضرّ وجوه وذكريات… وتنبت على المفارق نساء يلوّحن من بعيد لرجل قد يكون الريح الشمالية في يديه، وقد يكون فيهما دفء العالم كله، وقد يكون عابراً يمحو آثارَه مطرُ الشتاء…

العدد 1107 - 22/5/2024