الميزة غير المقبولة للجهل

في الماضي كان العمل الثقافي ينجز من قبل الآلهة وابطال القصص الملحمية والآن بات ينجز من قبل اعلانات منظفات الغسيل وشخصيات القصص الكارتونية المصورة.. مقولة يلقيها احد الصحفيين في الفيلم الأمريكيي Birdman) ) أثناء مقابلة سريعة مع ممثل سينمائي متقاعد، يحاول تسويق عرضه المسرحي الجديد. مما يضعنا أمام تدوير مدهش للحدث الواقعي الذي يناط به انتاج قيمة فكرية منسجمة مع هواجس المد الشعبي. 

تدور فكرة النص حول ريغانMichael Keaton  وهو بطل شعبي تخلى عن نجاحه السينمائي المبهر وتحول إلى إنتاج مسرحيته الخاصة في محاولة منه لكسب التقدير الذاتي، المبني على القيمة الثقافية المستمدة من الجدل الفلسفي. ما يجعل النص السينمائي مسرحيتان تسيران على التوازي، وتتداخلان في إبداع فني يحاكي واقعاً مسربلاً بالخواء الروحي والفكري، ومتعطشاً في الوقت نفسه للبطولات الخارقة التي يجسدها نموذج الرجل الطائر. وإرث ريغان ينتمي إلى المنطقة الأثيرة لدى العامة، حيث ينهض الفعل الخارق كتعويض قوي عن حالات الإحباط والعجز والقصور التي يفزرها الصراع الاجتماعي الحاد. لذلك يستجر التحول ازدواجية داخلية تأخذ طابع الهلوسة والحوار الذاتي مع شخصية الرجل الطائر المغيبة. وتدريجياً ينتقل الغضب الناتج عن الانقسام ليصيب بعدواه الممثلين الآخرين المشاركين في بطولة المسرحية، فيتواجه كل منهم مع أمراضه المتوارية، باستثناء رالف المتوافق مع ابتذاله وتصنعه. فيستبدله ريغان بنجم سينمائي يدعى مايك Edward Norton))، ينسجم كلياً مع النص وانفتاحه على خيارات الإبداع التجريبي.

تدور الأحداث على مسرح برادوي الشهير وفي أروقته الخلفية، حيث تتوه قصص الخيبات الصغيرة طريقها ليصار إلى تقاسمها تحت مظلة التوقعات الكبيرة والآمال العريضة. فمايك يكمل دور ريغان الأبوي مع ابنته سام، ويعزز ثقتها بكونها خلقت لتكون مميزة، ولورا تشجع ليزلي وتدعم حقها في نيل الاعتراف بموهبتها كممثلة مسرحية جيدة. أما مايك فيتواجه مع حقيقته الهشة كنجم يتكئ على صورته اللامعة التي تخفي عجزه وفراغه الداخلي. مما يدفعه لاعتبار خشبة المسرح مكاناً للتطهر من الزيف والادعاء وفرصة لتذوق نسغ الحياة الحقيقية. بالمقابل تجرب لورا عشيقة ريغان ادعاء الحمل لتجربة الشعور بعاطفة الأمومة، التي هي في حالتها احتمال بعيد التحقق. وبذلك يخلق المسرح الذي هو ابو الفنون، فرصة لتعرية الحياة المصطنعة المبنية على التظاهر ومحاولات إرضاء الآخرين.

تطرح سام لعبة قوامها الاختيار بين الحقيقة والجرأة، وهي عمليا المحرك الأساسي في النص. فالناقدة المشهورة التي تتساوى مع ريغان في العمر، تختار الحقيقة البحتة لنسف مسرحيته من أساسها، رافضة حضور العرض التمهيدي الذي يتم وفقه تقدير القيمة الفنية للعرض. بذلك تتحول لتصبح أداة معيقة في تطور فن النقد المسرحي، القائم على الجرأة في تجاوز القوالب الجاهزة التي تقودنا إلى المزيد من الخبث والنفاق والابتذال. وبالتالي ينحاز ريغان نحو المجازفة الجريئة حين يجد نفسه مضطراً للمخاطرة بماله لإنقاذ المسرحية، وبسمعته حين يسير عاريا بلباسه الداخلي بين حشد كبير من الجماهير. وهذه الجرأة طوعتها سام لاحقا لدعم مسرحية والدها اعلاميا، فحققت بذلك تصالحاً بين الماضي والحاضر، وتحولت المسرحية من نسخة مشوهة منمنمة عن نفس ريغان، إلى افتخار بالقوة العالمية التي نسجتها أسطورة الرجل الطائر في السينما. وهذا الانسجام والقبول سهل عودة البطل إلى تحليقه، فنزع شاربه وشعره المستعار ليعود كما كان، الأيقونة التي أنقذت الناس من حياتهم الرتيبة التعيسة.. وبذلك يكون المخرج المكسيكي المتميز Alejandro  I’rritu  قد نجح ببراعة مدهشة في استثمار مزية الجهل لتحفيز الخيال على خلق الواقع الموازي للشقاء العادي.

العدد 1105 - 01/5/2024