مانديلا.. وداعاً يا أبا الأمة!

مات أبو الأمة.. مات نيلسون مانديلا!

قالت ابنته الصغرى ذات يوم: (لقد نشأت دون أب، لقد كان أبي في السجن، وكنت أحلم بعودته لأعيش معه، لكني لم أعلم أنه عندما يعود سيبقى بعيداً عني، لأن أبي قد أصبح أباً للأمة).. فوداعاً يا أبا الأمة!

يا من سرت على طريق الحرية الطويل.. الطويل.. وبذلت جهداً كي لا تتداعى أو تسقط، لأنك اكتشفت مبكراً سراً يقول: (إن الإنسان الحر كلما صعد جبلاً عظيماً وجد أمامه جبالاً أخرى يصعدها).. فعانيت وتعذبت، ولكنك صبرت وصمدت حتى نلت الحرية والانتصار لك ولشعبك.. لقد كانت حياتك أشبه بصفحات كتاب كبير، لكل صفحة، بل لكل سطر فيه معنى ومغزى من معاني البطولة والتضحية والتواضع. صمدت في السجون، وتحملت العذاب وشظف العيش، لأنك عرفت منذ البداية أن الحرية لا تتحقق إلا بتحمل المشاق والتضحيات والمواجهة والتحدي.. فأنت القائل: (النضال هو حياتي، وسأواصل نضالي من أجل الحرية حتى الموت). قارعت الاستعمار والعنصرية، لأنك تعلمت من فكر ماركس وإنجلس ولينين أن: (المادية الجدلية توفر النور الذي يضيء ليل الظلم العرقي المدلهم، وفي الوقت ذاته الوسيلة التي يمكن بها القضاء عليه). وأخذت من غاندي إنسانيته السلمية، التي لا قيمة لأي أفكار دونها، ومن غيفارا ثوريته الجبارة التي لا تتجسد الأفكار في الحياة دونها. درست القانون، وتنقلت بين جامعة وجامعة ومدينة وأخرى، وتعلمت من مدرسة الحياة أصول الحق والمساواة، وعملت في السر والعلانية، في السجن وخارجه، في الحزب وبين الجماهير، وأدركت منذ البداية أن لا معنى للتضحية وللنضال دون هدف، دون أمل واقعي ممزوج برومانسية الثوار، ومعجون بغذاء روح المناضلين، من موسيقا وغناء وأدب وفن، فكنت تسمع بتهوفن وتشايكوفسكي، وتطرب لصوت طبول إفريقيا السمراء: (كنتُ مغرماً بكل أنواع الموسيقا، إنها تدخل على النفس السرور والبهجة حتى عندما تحكي قصصاً حزينة). تقرأ روايات وقصص تولستوي وهمنغواي، وتردد أشعار نيرودا وقصائد وترانيم أبناء جلدتك من شعراء وكتاب إفريقيا، الممزوجة بحكايات وقصص بطولات الأجداد والآباء التي علمتك أن (المرء كي يقود قومه عليه أن يعرفهم حق المعرفة)، عليه أن يخدمهم، وأنت من خاطب الجموع المحتشدة لاستقبالك بعد خروج من السجن الذي دام سبعة وعشرين عاماً قائلاً: (إنني أقف أمامكم كخادم متواضع، يخدمكم أنتم يا أبناء هذا الشعب).. وكنت خير خادم لكل الشعوب.

لقد علّمتك سنوات النضال الطويل وزرع فيك هذا المزيح الثقافي الواسع والمتنوع الصلابةَ والصمود والشجاعة والتفاني والتضحية، إلى جانب روح السمو والتسامح، حتى مع أعدائك، مع من ظلموك وسلبوك حريتك طويلاً، فأصبح شعارك: (تحرير الظالم والمظلوم.. رسالتي في الحياة).. فأحببت الناس، كل الناس، وعملت من أجلهم، وأحبك الناس، كل الناس، وتعلموا منك الكثير الكثير، وصلّوا من أجلك وحزنوا لموتك.. فشكراً لك!

ووداعاً يا آخر عمالقة القرن العشرين.. يا أبا الأمة!

العدد 1107 - 22/5/2024