قراءة لنتائج الانتخابات التونسية

قدمت تونس صورة مميزة للعرب والعالم خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، وأثبتت إن ثورة الياسمين ثورة أصيلة نابعة من التفاعلات الحاصلة في المجتمع التونسي، لم تُفّتَعل أو تُخّتلق خلّقاً، كما حدث في بلدان أخرى في المنطقة انزلقت نحو الفتن والتفتّت والحروب الأهلية.

نتائج هذه الانتخابات كانت عبارة عن رسائل موجّهة للغرب والعرب على حد سواء يجب أن تُدرّس بعناية لاستخلاص النتائج والعِبر منها. أهم هذه الرسائل هي:

 أن الإسلام السياسي ليس قدراً مفروضاً على سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المرحلة الراهنة، وإن الآليات الديمقراطية حتى لو مكنته من الصعود إلى مواقع السلطة، فإنها قادرة على تحجيمه وإزاحته أيضاً.

أن الإقصاء القسري لأي تيار سياسي هو نهج مدمر للدولة على المدى البعيد، فالآليات الديمقراطية يمكن أن تؤدي دورها في توجيه المسار السياسي في البلاد، وهي أوسع من أن تُحصر في صناديق الاقتراع، على أهمية النتائج التي تُفرزها. فهي تشمل أيضاً، مؤسسات المجتمع المدني النشيطة والفعّالة على الأرض، ووجود حياة سياسية وحزبية نشيطة تعمل على الارتقاء بالمستوى الثقافي والفكري والسياسي للمواطنين في الدولة.

أرست الانتخابات نموذجاً تعددياً يُعبّر عن توجهات المواطن التونسي، فبعيداً عن حسابات الفوز والخسارة الضيقة، يمكن اعتبار أي من الأحزاب المشاركة في الانتخابات، مهما كان عدد المقاعد التي حصل عليها في البرلمان، فائزاً نسبياً، لأنه سيشارك في رسم السياسات العامة للبلاد.

قدّمت درساً مهماً للكثير من الشعوب الساعية إلى إرساء تقاليد وممارسات ديمقراطية سلمية، كونها تجاوزت حمى التهديد والوعيد، ووضعت حداً لكثير من المنظّرين والمحللين الذين راهنوا على سلبية الناخب التونسي، وانسياقه خلف دعايات ومزاعم مضللة، وعدم قدرته على الاختيار بإرادة حرة وواعية.

أثبت الناخب التونسي أنه قادر على معاقبة السياسيين من خلال الوسيلة الأكثر سلمية وفعالية، فأطاح بأشخاص ورفع آخرين، بناءً على تجربته معهم خلال الفترة الماضية، وأثبت أيضاً أنه لا يمكن لأحد أن يزايد أو يتاجر أو يشكك بوعيه السياسي.

أثبتت الانتخابات أن المواطن التونسي بات يثق بأن صندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار من يحكمه، ورفضه لأي عنف أو انقلاب أياً كانت مسوغاتهما. كما أثبتت الانتخابات أن خيار الحداثة والانطلاق نحو المستقبل هو خيار أصيل وراسخ في المجتمع التونسي.

تميّزت هذه الانتخابات باستبعاد العنف، بكل أشكاله، إلى أقصى حد ممكن على جبهتي النظام والمعارضة، وأنجزت عملية ديمقراطية بين أحزاب التزمت مبدأ المشاركة السياسية ولم تنزع إلى الإقصاء والانفراد بالسلطة، وهي نقطة تحسب لصالح حركة النهضة التونسية.

أثبتت الانتخابات التونسية أن وجود حياة سياسية سليمة في البلاد تؤدي إلى وجود ضوابط أخلاقية ووطنية تحكم العلاقات بين مختلف القوى السياسية، بحيث يحلُ التسامح محل التعصّب، وتعلو مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والحزبية، ويتمُ التعامل مع قضايا المواطنين وأحلامهم وآلامهم بجدية وكفاءة وعدالة وليس بالكلام والمعارك الوهمية.

أثبتت نتائج الانتخابات أن التجربة التونسية لا تزال تسير على طريق النجاح. والسبب الأكبر لذلك هو اقتناع الجميع بإقامة الدولة على المفاهيم والآليات الحديثة، والتي من أبرزها تغّليب مفهوم المواطنة والانتماء للوطن على كلّ العوامل الأخرى.

أن تونس ليست واحة للحياة السياسية المثالية، ففيها الكثير من الأخطاء والخطايا، لكنها قدمت مزاجاً ثقافياً وإرادة سياسية تواجهان تلك المثالب وتجدان الحلول المعقولة لها. وهذه الانتخابات كانت محطة من محطات التحول إلى الدولة الحديثة قطعتها تونس، محطة أثبتت أنها تتجه بثبات وثقة نحو الغاية المنشودة، وأنها ستبني نموذجاً قد يُشّكل منارة للكثير من الدول، وستضع حداً لكثير من المتربصين والمشككين وأصحاب المخططات الخارجية.

العدد 1105 - 01/5/2024