الحب لا ينقذ الناس!

إبان صدمة البلوغ تقتحم رحلة المكتسبات الحيوية خفايا العوالم السرية، فتختلط المشاعر وتتداخل الأفكار ضمن بوتقة ضبابية تغزل الأوهام وأحلام المثاليات النبيلة. وغالبا ما تتولى الترددات الخافتة بين الأمهات وأولادهن المراهقين مهمة احتواء وترميم الأضرار الروحية التي يُلحقها غباء الحشد الجمعي وجهله بأساسيات البناء العاطفي للكينونة الإنسانية.. وهي فكرة الفيلم الكنديMommy) ) للمخرج XAVIER DOLAN))، وإمكانيته البصرية المدهشة للتعاطي مع  قوة العاطفة الأمومية والمدى الذي يمكن أن تصل إليه.

يغطي الفيلم بضعة شهور من حياة مراهق يدعى ستيف، جاوز الخامسة عشرة من عمره، مصاب بفرط نشاط عدواني.. دفعه في إحدى لحظات العبث الماجن إلى إشعال حريق في المدرسة الداخلية التي يعيش فيها، فأصبح مهدداً بدخول السجن مع إكمال عامه السادس عشر.. مما جعل المهلة الممنوحة للأم كي تستعيد ابنها من جنون نشاطه رهانا مستحيلا. فإطلاق السراح المشروط يتطلب من الأم التفرغ الكامل لرعاية ابنها ومراقبته، والتخلي عن المورد المالي البسيط الذي يوفره عملها، في ظل غياب الأب وافتقاد الدعم الحكومي. مما يفسح المجال أمام المخرج لإلقاء الضوء على تفاصيل البرود العاطفي في صميم المجتمع الكندي المعاصر، الذي يجمد التواصل الإنساني بين المواطنين بذريعة الرقي الحضاري. وهو ما دفع المخرج لافتتاح فيلمه بحادثة اصطدام سيارة الأم ديان ومحاولات خروجها وسط حيادية المحيطين بها. ليتوسع بالفكرة في مركز الحجز، راصداً التذمر واللامبالاة في التعاملات اليومية. فتتلخص صقيعية الوحدة التي يتخبط الناس في أشراكها، بمقولة الموظفة للأم: (الحب لا ينقذ الناس)!

تنتقل ديان بصخب مع ستيف إلى حي جديد، يتوافق مع مهمتها في تطويع ابنها الشرس. وتغدو تصرفاتها نزقة، متماهية كلياً مع ضوضاء ستيف واختلاط مشاعره العاطفية والجنسية. مما يجعلها تتعامل مع نزواته بحسم، يثبت المحبة ويدعم الثقة بالذات. ومع الوقت تستحيل علاقتهما إلى نوع من الرفاقية التي تتبادل الدعم والمساندة. فحين تفشل ديان في استعادة عملها في الصحيفة، لذهاب رئيس التحرير المعجب بجسدها، يتنطع ستيف للقيام بدور الراعي. فيتشاجر مع السائق الاستفزازي دفاعاً عن أمه، ويذهب للتسوق ويحضر لها سلسلة ذهبية..

تتراوح تصرفات ستيف بين حنين الطفولة النقي الى العاطفة الأمومية، وضجيج المراهقة وعنف السلوك. وقد أبرز المخرج هذه الاختلاجات ضمن مشاهد مدهشة في حيويتها معوضاً عن غياب السيناريو المتقن.. خاصة حين تتهمه ديان بسرقة السلسلة فيثور بعنف مدافعاً عن حبه لها، ويتطور غضبه إلى قتال يهدد باستدعاء رجال الشرطة لإعادته إلى المصحة، ثم السجن. وفي هذه المرحلة تتدخل جارة ضجرة تدعى كايلا لحلّ المشكلة، وتنشأ صداقة بين الثلاثة تمنحهم دفء العائلة وحميميتها. ويختزل المشهد الذي يهاجم فيه ستيف كايلا هذه الصورة الدقيقة، إذ تقيده وتلجم عنفه وتحرشه، فينهار باكياً ويبلل ملابسه خوفاً، ليعود المتنمر طفلاً صغيراً يفتقد للمهارات الاجتماعية الأساسية. وينعكس هذا التشارك الإنساني بشكل إيجابي في حياة الثلاثة معاً. إذ تتجاوز كايلا مشكلتها اللغوية، بينما تشجع ديان على إدماج ستيف بالنسيج الاجتماعي.. ليصل الخواء الإنساني إلى ذروته عند محاولة ستيف التواصل مع أقرانه المراهقين إبان الحفلة. إذ يلمس السخرية وعدم الاهتمام بالآخر إلا من خلال جسده المعروض كسلعة جنسية براقة. فيحاول الانتحار بقطع الرسغين، وتهتف ديان بألم اليأس في مسرحية اللحظة الأخيرة.. فالمسرات الصغيرة لن تملأ خواء إنسانياً يعصف بأساسات الحضارة المكتملة مادياً.. لذلك توقع ديان الأوراق لتسليم ستيف إلى المصحة، مع أمل بعلاجه. فيهادن الفتى بصبر، حتى تسنح له فرصة للإفلات من قميص المجانين، في مشهد رائع يعطي للفيلم جماليته التي تنتزع الفرح والجمال من قلب الحزن واليأس.    

العدد 1105 - 01/5/2024