الجلاءُ.. صُبْحٌ مندّى على جَبينٍ كلّ وطنيّ

يومُ الجلاءِ هو الدنيا وزهوتها ..|.. لنا ابتهاجٌ وللباغين إِرغامُ

يا راقداً في روابي ميسلون أفقْ ..|.. جلتْ فرنسا وما في الدار هضّامُ

التاريخ الإنساني من ألفه إلى يائه أزعم أنه قال بلا شبهة: لم يستطع أي وطن من الأوطان على امتداد المعمورة أن يدفع الأخطار والتحديات والترهيب والغزاة عنه بالتباكي والعَبَرات السخية، واستدرار عطف الآخرين، واستصراخ ضمائر الغزاة والطغاة والمستعمرين والمستبدّين…

وقال: لم يستطع، كذلك، أي شعب من الشعوب أن ينال حريته ويسترد كرامته، ويحيا حياة إنسانية كريمة تليق به بالصراخ والعويل والبكاء والاستجداء والمذلة والهوان…

(فالشعب الحيّ والأمة القوية يَنْشُدان الحرية والكرامة من مخالب الأعداء، ويطلبان العزّة والمجد تحت ظلال السيوف، ولا يُفكّران في أن يصلا إلى ذلك بالتواني والمَذَلّة..).

وسورية العربية لم تَدْحر المستعمر الباغي والغزاة الغرباء.. ولم تنل حريتها وتتخلص من نير العبودية.. إلا عندما قدّمت قوافل الشهداء.. وأراقت الدماء الزكية فوق ترابها الطاهر المقدّس…

فما أنْ تمَّ تحرير بلاد الشام من الاحتلال العثماني الظلامي الذي جثم على صدرنا أكثر من أربعة قرون، ودخول الجيش العربي إلى دمشق عام 1918 وإعلان الأمير فيصل قيام الحكم العربي المستقل في بلاد الشام…حتى تكالب الغرب الاستعماري على أمتنا العربية من جديد تحت عناوين زائفة ومخادعة (الوصاية، الانتداب، المدنية..)، فعملت فرنسا مع بريطانيا على تجزئة بلادنا في اتفاقية (سايكس – بيكو) عام 1916 وإصدار وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 فكانا من أخطر الاتفاقيات الاستعمارية، وأكثرها تأثيراً على المنطقة العربية حتى يومنا هذا (…).

واحتل الفرنسيون الطغاة سورية، ولكن أحرارها، الذين ما قبلوا يوماً الاستسلام والعبودية.. ولا هادنوا لحظة غازياً ومحتلاً.. تصدّوا بشرف وشموخ وإباء منذ اللحظات الأولى لجحافل الغزاة، ودافعوا مدافعة الرجال عن أرضهم وعرضهم وكرامتهم بصوفية وطنية فذّة، وتضحيات مترعة بالبطولات والشهادة… وسطعت، مرة أخرى، شمس الحرية والاستقلال، وجلا المستعمر الفرنسي الإمبريالي عن سورية، التي يرخص في سبيلها كل شيء، في السابع عشر من شهر نيسان سنة 1946.

وولد في الزمن العربي السوري عيد رايته لا تعلو فوقها أي راية أخرى.. صُبْحه ندى على جبين كل وطني حرّ.. شمسه لا تغيب.. ونوره لا يريم هو عيد الجلاء العظيم، عيد العزة والمجد والكرامة الشخصية والوطنية والقومية والإنسانية…

عيد هو في العميق من أرواح الوطنيين الأحرار وعقولهم وضمائرهم ووجدانهم وحياتهم – واقعياً وعملياً وحقيقة – عيد الأعياد وسيّدها وقِبلتها على مرّ الزمان…

نحتفي هذا العام بعيد الجلاء المجيد.. وسورية من أقصاها إلى أقصاها تمرّ بظرف تاريخي معقد وحرج وفي غاية الخطورة، فالتحديات والمؤامرات والترهيب والدمار والدماء، ومحاولات التجويع والتركيع تحيط بها من كل جانب.. وهي تواجه حرباً كونية همجية إرهابية تكفيرية دموية غير مسبوقة تستهدف وجودها ورسالتها وموقفها الريادي ودورها المركزي وهويتها العربية المقاومة، ووحدة أرضها وشعبها، فحلم التقسيم لا يزال يراود أحفاد سايكس ـ بيكو…

ولكن الأمة التي صدَّت الغازين والمُعتدين القادمين والزاحفين إليها من أوربا ومن الشرق؛ من الفرنجة وجماعات المغول البربرية، وانتصرت عليها.. والأمة التي وضعت حداً للكيان الصهيوني في حرب تشرين المجيدة، وفي عدوان تموز (2006)، لقادرة على ردِّ أيّ عدوان غاشم والانتصار عليه، ولقــادرة على استعادة الأراضي العربية المُغتصبة والسليبة من الغزاة والقوى الاستعمارية على امتداد الجغرافية العربية.. فأمتنا أمة واقفة منتصبة القامة حتى لو جهنم صُبت فوق رأسها…

وفي حالتنا الراهنة سوف يدوّن التاريخ بدمائنا الزكية ما دوّنه بدماء أجدادنا الطاهرة:

أرض سورية العروبية الشامية الطبيعية كانت مَقْبرة للغزاة الصهاينة والمشاريع الإمبريالية الأمريكية/ الغربية، ومقبرة للرجعية العربية التي عرفت تاريخياً بدورها الوظيفي التخريبي العميل..

وكانت مقبرة للعثمانية (الأردوغانية) المغولية التترية المعاصرة.. ومقبرة للأفكار الوهابية التكفيرية النازية… والمنظمات الإرهابية الدموية المتأسلمة الظلامية والباغية التي قطعت الرؤوس، وشقّت الصدور، وأكلت الأكباد، ونبشت القبور، وفجّرت الأجساد والأرواح، وفتكت بالإرث الإنساني والحضاري، والتي مابرحت تعمل على تفكيك نسيج المجتمع السوري، وتفتيت الدولة الوطنية، وعلى تدمير مبرمج لكل مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية في سورية..

وإذا كان (يسوع الناصري) قد قال عندما سَمَّرَه الجنود الرومان على خشبة الصليب: (يا أبتاه.. اغفر لهم.. لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون)، فإن القول: (اللّهم لا تغفر لهم.. لأنهم يعلمون ماذا يفعلون) لا يخرج من دائرة الصواب والإيمان وعنها، ولا سيما في لحظتنا الحاضرة…

تحية شكر وتقدير وعرفان ووفاء إلى شهداء الجلاء العظيم، وإلى كل شهداء الوطن على امتداد الأرض العربية السورية المقدَّسة… وكل عيد وسورية الخالدة وشعبها الصامد الأبيّ بخير وأمان وسلام…

العدد 1105 - 01/5/2024