في ذكرى شهداء الاستقلال والحرية والكرامة

(الأمة التي لا تشعر كلها، أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية).

«الكواكبي»

 في السادس من أيار من عام ستّةَ عَشَرَ وتسعمِئة وألف نُفِّذَ حُكْم الإعدام في دمشق وبيروت بواحد وعشرين مناضلاً حُرّاً عربياً، سبعة في دمشق وأربعةَ عشرَ في بيروت، ينتمون جغرافياً إلى سورية ولبنان وفلسطين (عبد الحميد الزهراوي ـ رفيق رزق سلوم ـ شكري العسلي ـ العقيد أمين الحافظ ـ عبد الغني العريسي ـ بترو باولي ـ عمر حمد، جرجي الحداد ـ محمد الشنطي ـ علي النشاشيبي…).

وكان هؤلاء المناضلون الأحرار القافلة الثانية من الشهداء، فقبل تسعة أشهر نُفِّذَ حكمٌ غاشم آخر في بيروت ودمشق بأحد عشر شهيداً، وبذلك نكون قد فقدنا في أقلّ من عام أكثر من ثلاثين شهيداً يعْربياً في سبيل الاستقلال والحرية والوحدة… وقد استقبل هؤلاء الشهداء الأبرار الموت بشجاعة وثبات.. مردِّدين، وهم في طريقهم من السجن إلى ساحة الإعدام، هذين البيتين :

نحن أبناء الأُلى

شادوا مجداً وعُلا

نَسْلُ قَحْطانَ الأبي

جَد كُل العَرَبِ

 لقد قبض السفّاح التركي (جمال باشا) أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأحد الذين شاركوا في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، و الحاكم العسكري المطلق في بلاد الشام، قبض على هؤلاء المثقفين المتنوّرين العرب، شعراء وكتّاباً وصحفيين وسياسيين وعسكريين، وأعدمهم شنقاً حتى الموت بعد أن أُقيمتْ في (عاليه) محكمةٌ صُورية على عجل بأمر مباشر منه.. وقد أقدم (السفّاح) على إعدامهم لأنهم كانوا، يومذاك، طليعة الوطنيين الأحرار، وقادة الرأي والوعي والكفاح الدامي من أجل الانفصال عن كيان الدولة العثمانية، وإقامة وطن عربي حرّ مستقل، وبناء الدولة العربية الواحدة، والحفاظ على الهوية القومية العربية وصيانتها ((فنحن عرب قبل كلّ صبغة سياسية، حافظنا على خصائصنا وميّزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة بالرغم مما كان ينتابنا من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري..)) كما قال شهيد (القومية العربية) وشهيد الاستعمار العثماني، عبد الغني العريسي.

نعم، كان لا بدّ من بعث حركة القومية العربية التي حاول (السفاح) وأدها، وكان لا بدّ من الخروج، وبأيّ ثمن، من جحيم الاستبداد وعالمه السفلي إلى نعيم الحرية وفضائها النورانيّ.. لأن الاستبداد يدمّر الأمة، أيّ أمة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً وأخلاقياً وإبداعياً وفكرياً.. وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة ـــ كما يقول المفكر المغتال عبد الرحمن الكواكبي ـــ أن يحوّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل.. وإذا أُلزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها. وعندئذٍ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها.

وكان العمل الكفاحي المتواصل الصادق والشاق على أكثر من ((جبهة)) من أجل الاستقلال والتحرر من أعداء الحياة.. والتخلص من طغيان الدولة العثمانية وقمعها واضطهادها وجهلها وتخلفها.. ومحاولاتها طمس هويتنا العربية، والقضاء على لغتنا الأم الواحدة الجامعة.. ومن أجل الانتهاء، وإلى الأبد، من استبدادها وممارساتها القاهرة المهينة والمذلة للعرب، ولا سيما حين سيطر الاتحاديون الأتراك على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية عام 1908 وحين اندلعت الحرب الكونية الأولى.

لقد هزّت هذه الجريمة الموصوفة، جريمة الإعدام، الإنسان العربي وخاصة في بلاد الشام، وزلزلت كيانه، وأيقظته من سباته العميق… وصوّر أدباء العربية، في أوطانهم وفي المهاجر ولا سيما المهجر الجنوبي، هذا المشهد المأساوي النازي من زواياه المختلفة.. وعبّروا عن هذه المحنة الفاتكة التي حلّت بأهل الشام في تجلياتها المتعددة، كما عبّروا عن تلك الأحزان الوجيعة التي استوطنتْ كل قلب.. وعملوا على تنبيه الوعي وإيقاظ العقول والنفوس وإحياء الشخصية القومية العربية وبعثها من جديد، ممجّدين بقصائدهم الشهادة والشهداء والتضحية والفداء…

عاشتْ سورية حُرّة، سياديّة، مستقلة، سيادية، ديمقراطية، وطنية / عروبية، موحَّدة وموحِّدة.. وعاشت ذكرى شهداء الاستقلال والحرية والكرامة.. على امتداد الجغرافية الوطنية والقومية حيّة نابضة في قلوبنا وعقولنا وضمائرنا، وفي ذاكرة تاريخنا العربي عبر شرفاته المضيئة.

العدد 1105 - 01/5/2024