الهروب من صدمة الحياة..

 

تتمركز الحياة حول غابة متشابكة من الرغبات والمشاعر المجهضة التي تتناسل لتشكل فجوات تعيق مسارات الطاقة القادمة من الروح، فتتوالى الصدمات والنكسات لتنسج استغراقاً في اليأس والإحباط المفضي إلى الانتحار العاطفي. وغالباً ما تتأتى روعة إنكار الجراح من مصدر القوة  نفسها التي تخمدها بعد أن تحولها إلى تيمة ملحة في الذاكرة، تنحي الخراب كلما هدد بابتلاعنا.. لذا توجب على شيريل بطلة فيلم Wild) ) أن تسير مسافة ألف ميل عبر الصحراء والجبال والثلوج، لتتحرر من عبء الذكريات السيئة، التي لوثت روحها بالكراهية والحقد، لتُخلق إنساناً سوياً من جديد، إنساناً يتقبل الغفران والتصالح مع الذات..

في مشهد الافتتاح تبدو شيريل عالقة في أزمتها الداخلية التي تمظهرت بألم القدمين الناتج عن حذاء المشي الضيق، وكأن القدر يوصل للشابة المستنزفة روحياً، تحذيراً قاسياً من مخاطر الاستكانة للقوقعة المادية. التي تمنح أوهام الحماية المؤقتة، فتمتص الطاقة الفائضة عن الخيبة والخذلان والجوع العاطفي ضمن شكل مخادع من الإشباع المادي. حيث ستجلس شيريل في أعلى الجبل أمام قدمها المدماة، تتذكر هوسها الجنسي الذي تحول إلى إدمان مرضي ابتلع روحها بالكامل، بعد أن تجاوز مرحلة الفضول والشبق الجنسي إلى صيرورة الاستحواذ، كوسيلة لجلد الذات وإجبار النفس على التقهقر أمام الحاجة الطبيعية لتلقي الحب والحنان، وإذ يشير عجز شيريل عن رفع حقيبة الظهر الطافحة بأثقالها إلى حجم الطاقات السلبية التي ملأت روحها بالثقوب السوداء، مما يعني أن  رحلة المسير ستتخذ هيئة التخفف من الأحمال الزائدة..  

يرصد الفيلم المصور عن قصة واقعية تفاصيل التيقظ الإنساني المبني على تقدير هبة الحياة، من خلال ترافق المسافات المقطوعة بإعادة تقييم الذكريات الأليمة. ففي اليوم الأول تفرد شيريل الخيمة وتواجه تحدي الوحشة كبداية لمعاينة الفراغ الروحي المزمن، مما يفضي إلى التساؤل عن مكمن القوة الداخلية وتصاريفها الخفية، أي تتماهى الصدمة الأولى مع القبول الطوعي لدروس القدر، ومنها تناول الطعام غير الناضج بسبب شراء الغاز الخطأ لموقد التسخين. وفي اليوم الخامس يتواتر الشعور بفقدان ألفة الحياة اليومية مع الآخرين بتفاصيلها الحميمية البسيطة، لتصغي بألم إلى صوت المحبة وهو يهسهس  في جنباتها المرتعدة توقاً للحنان والتعاطف، وحين ينفد الطعام في اليوم الثامن تلتجئ ليلاً إلى كهل يعمل على جرار زراعي؟ وترافقه إلى منزله لتتناول طعام العشاء بصحبة زوجته.. وعند صدمة المواجهة مع الحياة الأسرية الحقيقية في منزل الكهلين، تستعيد شيريل تفاصيل علاقتها المضطربة مع زوجها، وكيف قابلت اهتمامه وحبه بالتمرغ في وحل الخيانة وإدمان المخدرات. مما يشكل مدخلاً لتسليط الضوء على استلاب الإرادة الذي يمارسه أحد الأبوين في حياة الطفل، والذي ينعكس في مرحلة البلوغ تمرداً على قدسية الحياة الإنسانية وكرامتها. وفي هذه الحالة فإن تفاني الأم يزيد من وطأة المشكلة بدل من أن يخففها، لأن مشاهدتها وهي تتعرض للضرب المستمر، ستنغرس في الوعي لتدق أجراس الخطر دونما توقف. وبالتالي فإن إرادتها القوية في بث طاقة الحنان والمحبة لن تمحو آثار الدمار النفسي، بل ستضاعفها عندما تصاب بالسرطان بعد انفصالها عن الأب ثم تموت، لتندفع الابنة المتمردة إلى جنون الانتحار العاطفي عبر الاستسلام الكلي للانحلال الأخلاقي، بعد حرمانها من الجانب الناصع في وجودها المثقل بأعباء الكراهية والضغينة.

نجح المخرج الكنديjean Marc VALLEE) ) في نقل صورة فنية مقبولة لشيريل التي تعثر على طريقها للخروج من غابة الأحزان وأشواكها، متجاوزة موثوقية التجربة الحسية المباشرة إلى اتساع المكتسبات الحدسية المتكئة على عظمة الروح وسموها.

العدد 1105 - 01/5/2024