زيادة التصعيد الأمريكي.. واستمرار صمود سورية

كثيرة هي الملاحظات حول مؤتمر جنيف ،2 وجولتيه الأولى (22-30 كانون الثاني) والثانية (10-15 شباط)، وحول طبيعة المشاركين فيهما، إلى جانب وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأمريكي جون كيري، ومواقفهما حول الأزمة السورية وسبل حلها، والتي أظهرت بجلاء سياسات هذه الدول المقررة أصلاً، في محاولة أمريكية واضحة للتأثير عليهم.. وتضاف إلى طبيعة الوفدين الأساسيين الحكومي الوطني السوري، وما يسمى بوفد (المعارضة) أو الأصح الجزء الصغير من (الائتلاف).

ففي الوقت الذي أكدت فيه كلمتا سورية على الحوار والحل السياسي للأزمة، والتمسك بوثيقة جنيف كاملة، وفق تسلسل بنودها، وخاصة وقف الإرهاب ومكافحته أولاً، وآليات إنجاح هذا الحوار ثانياً، كذلك تصريحات أعضائه ومؤتمراتهم الصحفية، أظهرت كلمتا هذا الجزء الصغير (المعارض) تجنبه القضايا الرئيسية وافتقاده لبرنامج عمل حول حل الأزمة، فضلاً عن التصريحات الاستفزازية التي شهدتها جلستا الحوار، حول وثيقة جنيف وكيفة التعامل معها.

كما أكدت الجولتان، بما لا يقبل الشك، حقيقة مواقفهما تجاه الوثيقة أولاً، والانتقائية التي حاول هذا الجزء من (المعارضة) التعامل معها، إضافة إلى إصراره على احتكار تمثيل المعارضة، ورفضه الوصول إلى تفاهمات مشتركة مع أطراف الائتلاف الأخرى من جهة، ومع أطياف (المعارضات) الأخرى الوطنية من جهة ثانية.

ورغم التصعيد الأمريكي الذي تضمنته كلمة كيري في الجولة الأولى، وصولاً إلى الاتهام وتحميل سورية المسؤولية، مقابل التوازن والعقلانية التي أظهرتها كلمة لافروف، فإن الجولة الثانية وما رافقها وأعقبها من زيادة في التصعيد الأمريكي تؤشر إلى المبتغى المختلف والمتعدد الأوجه من هذا المؤتمر لكل من روسيا والولايات المتحدة وما يمثلانه دولياً.

فقد عادت الولايات المتحدة إلى طرح معزوفة قديمة – جديدة (مشروخة) عناوينها السلاح الكيميائي، الذي التزمت سورية بالقرار الدولي رقم 2118 الخاص به، وافتقدت هذه المعزوفة إلى أدلة وحقائق، رغم مواقف الأمم المتحدة الإيجابية حول التعاطي السوري مع هذا القرار، وبضمنها منسقة الشؤون الدولية الخاصة سيغريد كاج أيضاً، وواصلت أيضاً استعادة أفكار وعناصر تمس السيادة الوطنية السورية التي لا تنص عليها وثيقة جنيف أصلاً، بدءاً من الممرات الإنسانية، إلى الممرات الآمنة.. إلخ، متجاهلة عن قصد، البند الأول في الوثيقة المتمثل في وقف الإرهاب ومكافحته، وأهميته في مواصلة تنفيذ سورية تقديم المساعدات الإنسانية السورية، التي شكلت 75% من مجموع المساعدات المقدمة (وفق تصريحات نائب وزير الخارجية د. فيصل المقداد، فيما ذهبت غالبية ال 25% الدولية مخصصات ومصاريف للوفود الدولية)، وأضاف الكونغرس تصعيداً جديداً بإقراره تقديم المساعدات (غير الفتاكة) لما يسمى المعارضة (المعتدلة)! وصولاً إلى انتقاد المواقف الروسية واتهامها بتجميد العملية السياسية في جنيف وما بعده.. في الوقت الذي دعت فيه موسكو رسمياً إلى تمثيل كل أطياف المعارضة، على اختلافها وتنوعها (بغض النظر عن رأي موسكو فيها) للمساعدة في تعجيل آلية الحوار والحل السياسي.

وأضافت واشنطن إلى انحيازها السافر (وهذا ما لمسناه أًصلاً من الجولة الأولى أصلاً)، ليس فقط في تصريحات صقور الكونغرس أمثال جون ماكين وغيره، بل في المطالبة بإعطاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما الحق والصلاحيات والضوء الأخضر بوضع كل الخيارات المتاحة على الطاولة، أي عدم الاقتصار على الحوار الضاغط الذي تمارسه، بل العودة إلى معزوفة التدخل العسكري والأمني المباشر وغيره أيضاً.. وما تمثله هذه التصريحات من مخاطر جدية على عملية جنيف برمتها، وتناقضاً صارخاً مع وثيقة جنيف، وتجلى في عدم تحديد موعد أولي للجولة الثالثة، ومدلولات ذلك.. وتناقضاً مع توجه الغالبية الدولية الساعي إلى الحوار والحل السياسي للأزمة السورية، ورفضه الخيار العسكري أو التدخل الخارجي وتداعياته، التي شهدتها المنطقة مؤخراً في العراق بعد احتلاله عام ،2003 كذلك السيناريو الليبي ونتائجه الكارثية الراهنة والمستقبلية أيضاً.

وتريد واشنطن من هذا التصعيد المتعدد الأوجه، وتعمل على التأثير السلبي عبر فرملة أو إعاقة التغيير الجاري في المواقف والسياسات الدولية الإيجابية من جهة، وإعطاء دفعة ميدانية وسياسية للأطراف التي تسميها زوراً أنها (معتدلة) وغير (إرهابية) من أطراف المعارضات من جهة ثانية، إضافة إلى محاولتها الواضحة المتمثلة في الحفاظ على لغة مشتركة، أو ماتبقى من ماء الوجه، مع أدواتها ووكلائها، واستخدام ذلك كله أوراقاً ضاغطة على الموقف السوري الوطني.

هذا في الوقت الذي تعمل فيه سورية من خلال وفدها الحكومي والقوى الوطنية الأخرى الحريصة على سورية، حاضراً ومستقبلاً، على  استئناف العملية الحوارية، وصولاً إلى الحل السياسي، وتريد حلاً متوازناً يضمن تنفيذ وثيقة جنيف كاملة (رغم الملاحظات السورية على العديد من بنودها).. كذلك تصر على مواجهة ضغوط الدول المنشغلة سلباً بالأزمة السورية، الآخذة بالتناقص تدريجياً، وعدم التدخل في شؤونها السيادية، وفي كيفية حل أمورها الداخلية، وهذا ما برز في كلمة مندوب سورية في الأمم المتحدة د. بشار الجعفري في جلسة مجلس الأمن الدولي الأخيرة، حول آلية المساعدات الإنسانية ومكافحة الإرهاب ووقف انتهاك الحدود والسيادة الوطنية، انسجاماً والتعديلات الروسية على مشروع قرار مجلس الأمن الدولي.

والأهم أن ذلك كله يتم على الأرض، على أيدي مجموعات ظلامية سلفية صنفها (الغرب) أو (اضطر) لذلك (نظرياً) على الأقل، أو صنف العديد منها بأنها إرهابية وتنتمي للقاعدة، ووضعها في قائمة لوائح الإرهاب.

فيما يبقى السؤال الأهم: كيف وما هي الطرق والآليات المطلوبة أمريكياً و(غربياً) لمكافحتها، رغم ممانعة الولايات المتحدة وحلفائها إدراج أولوية بند مكافحة الإرهاب على أعمال المؤتمر؟

كما أن السوريين الوطنيين الحريصين على وطنهم، أكدوا موقفهم خلال سنوات الأزمة الثلاث العجاف، رغم مرارتها وكارثيتها الوطنية والفردية، وتبعاتها الراهنة والمستقبلية، وإصرارهم على استعادة سورية لدورها الوطني المعارض للسياسة الأمريكية وللانتهازية (الغربية)، وفي الصدارة الازدواجية الفاقعة في التعاطي مع لافتات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.. إلخ، خدمة لمصالحها وأهدافها أولاً، على حساب سورية شعباً ودولة ودوراً وطنياً وإقليمياً أيضاً.

وأصر السوريون أيضاً خلال السنوات الثلاث القاسية، والباهظة الثمن، ومازالوا، وهذا ما بات واضحاً للقاصي والداني، أن لا أحد له الحق في تحديد خيارات الشعب السوري، سوى السوريين أنفسهم، الذين دفعوا ومازالوا يدفعون ثمن استقلالية بلادهم ورفضهم التبعية والإذعان للحلف الأمريكي- (الغربي) – الإسرائيلي وأدواته (الإقليمية) و(المستعربة)، حلفاء (الائتلاف) والمعارضة المرتبطة.. وأن المخرج من الأزمة لن يكون إلا سورياً، عبر الحوار والحل السياسي، كما يصر الشعب السوري على مواصلته، مستنداً إلى إنجازاته الميدانية الهامة والمتواصلة (رغم ثمنها الغالي أفراداً وشعباً واقتصاداً، وإشغالاً لسورية بقضاياها الداخلية)، والتي تمثل الأساس في صمود سورية، وفي صحة سياساتها ودقة تحالفاتها، ووقوفها في الصف المعارض والمناوئ للتبعية، ولمحاولات إلغاء الدور الوطني والإقليمي السوري أولاً.

العدد 1107 - 22/5/2024