الغضب بين الشهوة والنشوة..

في سياق الحياة اليومية يشتعل الغضب الكامن لأوهى الأسباب، فيعيد تشكيل الحالة الانسانية مدمراً في لحظات قليلة قشوراً أنيقة تعب صاحبها في تجميعها، لتكون المحصلة ارتداداً إلى غريزة التوحش المغرقة في القدم. وما بين شهوة الغضب وهسيس نشوته مسافة صغيرة يخترقها بذكاء المخرج الأرجنتيني Dami’n Szifron ) ) في فيلمهWild Tales) ) ليعرّي سياسة الفساد الحكومي ضمن لوحات فنية متباينة تنسج لحمة العنف المتسربل بالقنوط الشعبي العام.

 تدور اللوحة الأولى حول رحلة طيران تابعة لشركة خاصة تضم مجموعة صغيرة من المسافرين تجمعهم مواقف شخصية سيئة بقائد الطائرة غابرييل باسترناك، فتشكل عناصر اللوحة متاهات الغضب الفردي الذي يتكاثف في اطار شهوة الانتقام. فحين تقلع الطائرة تتصفح عارضة الأزياء دليلاً سياحياً لصور الحيوانات البرية، التي ستكون مدخلاً لتعرية الوحشية الكامنة في نفوس المواطنين المنضوين تحت تهذيب المظلة الاجتماعية. فالمرأة تخون غابرييل مع صديقه الوحيد، والناقد الموسيقي يكرهه من الوهلة الأولى ويطرده من المسابقة الفنية، ورفاق المدرسة يتنمّرون عليه، والطبيب النفسي يرفع أجور معاينته عند بلوغ العلاج ذروته.. لذا يحطم الطائرة بركابها فوق منزل والديه بعد أن يُدخلهم حالة من الرهاب والهلع، في إشارة إلى معاناة الإنسان الهش الذي يفتقد الحنان والتفهم من أبويه، فتتضخم مخاوفه مع توالي عجزه عن مواجهة سقف التوقعات الكبيرة من محيطه.. 

تنتقل الكاميرا مباشرة إلى اللوحة التالية، لتضعنا في مطعم منعزل تديره كهلة تساعدها نادلة شابة. وفجأة يدخل سياسي فاسد إلى المطعم ليطلب عشاء، فتتعرف عليه الشابة، لأنه كان تسبب في انتحار والدها وبيع منزلها وملاحقة والدتها وبالتالي فقدانها لألفة عالمها. وبينما تفكر الفتاة في طريقة لإهانة الرجل، تصعّد الكهلة غريزة الانتقام وتحولها إلى رد فعل على الظلم الاجتماعي الذي يعانيه المهمشون. فتدس سم الفئران في طعام الرجل، ثم تطعنه بعنف بسكين المطبخ حين يتهجم على الشابة محاولا قتلها، وُتكسب فعلها بعداً بطولياً يجعل خيار السجن معادلاً للحرية. فهناك يتناول أمثالها الطعام ويتخلصون من استعباد الإيجارات المرتفعة. ويختزل المشهد الذي يجمع النادلة بقاتلها وسط بركة الدماء تيمة الجلاد/الضحية، التي تُجدّد شعار المذلّين والمهانين..

يرصد المخرج ببراعة مدهشة نشوة الغضب الهادئة المنعكسة فوق وجوه أبطاله العابرين، والتي تتمظهر معادلاً مكافئاً لشهوة القتل المتأججة من عهد قابيل.. ويختزل الانتقال الآني بين اللوحات سرعة جريان النبضة العدائية وهشاشة الارتقاء الإنساني.. فاللوحة الثالثة تجسد مكمن الحسد بين الرجال في مجال الاستعراض المادي، والمتمثل بسيارة جديدة حديثة يقودها شاب أنيق تعترضها سيارة مهترئة يقودها رجل سوقي. يستفزّ الأخيرُ الشابَّ بسلوكه العدواني الواثق بغريزته الحيوانية، ويجره إلى عراك متجدد ينتهي بموت الاثنين حرقاً وهما متشابكان بالأيدي، لتبدو الحادثة كجريمة شهوة! والتوصيف يتوافق مع نشوة الغضب المرتسمة على وجهيهما. أما في حالة مهندس التفجير فتبدو نشوة الغضب في معالم وجوه الموظفين البيروقراطيين الذين يسلبون ماله باسم الحكومة، ثم يجردونه من عمله ومن حقه في حضانة طفلته الوحيدة. مما يدفعه لتفخيخ سيارته وتفجيرها في مكان قطر السيارات المخالفة لتغدو حادثة احتجاج عامة يحتفى بها في السجن كرد فعل على ذوي الياقات البيضاء المنتشين بذلّ مواطنيهم. وهي حادثة تجد أبعاداً لها في اللوحة التالية مع الصبي المترف الذي يصدم امرأة حاملاً في الشارع فيتسبب بقتلها مع جنينها. ليجتمع عند الأب، المحامي والمدعي العام وممثلو الشرطة وضحية افتراضية لتقاسم الغنيمة عبر الابتزاز. وهنا يغضب الأب من جشع المزايدين ويرفض دفع المبالغ الفاحشة، لينتهي الشركاء إلى قبول ما يقدمه دونما مساومة.

ومثلما بدأ الفيلم بلوحة الاستلاب المجتمعي والأسري، انتهى أيضاً ضمن نطاقها إبان تدشين المؤسسة الزوجية واحتفالات الزفاف.. فالبهجة تصطدم عند الزوجة بمؤشرات الخيانة، فتحول شهوة الغضب العارمة إلى خيانة سريعة، فنزعة تدميرية لنفسية الزوج، لتنتشي بغضب هادئ يحفز الزوج على التودد لها مجدداً برقصة صاخبة تنتهي بوصال علني تحت أنظار المقربين.. وكأن هذا الدوران المتقن لنشوة الغضب يرينا كيف تتلطى الوحشية المتقدة تحت الأقنعة المشذبة، لتنسرب بهدوء ساخر من قوانين التحضر.

العدد 1105 - 01/5/2024