إنسانيتي أغلى من أيّ مهر

 أحب أحدهما الآخر بطريقةٍ لا مثيل لها، وتكلل هذا الحب الذي أصبح مضرب مثلٍ بالزواج.

كانت تمتلك شخصيةً تتباهى وتعتز بها لدرجةٍ عالية، ما جعلها ترفض مبدأ المهر رفضاً قطعياً حينما بدأت الاستعدادات لمراسم الزواج، ذلك لأنها ترى نفسها إنسانةً ذات كرامةٍ وليست متاعاً يباع ويشترى، هي ليست شيئاً يباع في مزادٍ شرعيٍ، البائع فيه أبوها والشاري زوجها، أحبُّ رجلين إلى قلبها، الأول استمدت منه الحياة ومهد لها الطريق لتمتلك الوعي بذاتها وحقوقها وواجباتها، والثاني هو الإنسان الذي وهبته عقلها وقلبها وستهبه حياتها وكل ما تمتلك لتكتمل به ويكتمل بها، فيبنيان معاً أسرةً مختلفةً عن أقرانهما، وينجبا أطفالاً يزرعان بهم مفاهيمهما وقيمهما التي يحملانها، حتى وإن كانت هذه القيم والمفاهيم تحمل ما تحمله من تحدٍ للواقع وللسائد.

ذهبا إلى المحكمة الشرعية التي من شأنها أن تُتممّ لهما مراسم الزواج (هذا هو قانون البلاد)، وبحكم هذا القانون، كان برفقتهما والدها، ذلك أنه لا يحق لها أن تكون مسؤولةً أو وليةً على نفسها، بل لا بد من وليٍ ذكر، فإن لم يكن الأب، فليكن الأخ حتى وإن كان أصغر منها سناً، يكفيه أن يكون في السن القانوني، وإن لم يكن، فليكن العم أو الجد للأب، حتى وإن لم تكن على علاقة طيبةٍ معهم، وإن لم يكن كل هؤلاء، فحكماً سيكون القاضي الشرعي وكيلها وولي أمرها.

المهم، ذهبا إلى المحكمة، وبدأت معاملة الزواج، وحين وصلت إلى تحديد قيمة المهر، رفضت الموضوع بالاتفاق مع أبيها، فكان الرد الشرعي، بأنه لا يصح هذا الأمر، ولن يكون الزواج صحيحاً، إذ من المفترض وضع حدٍ أدنى ليكتمل عقد القران.

بعد مشادة كلامية بينها وبين القاضي، اتفق على أن كل ما هو مكتوب، ليس إلا حبرٌ على ورق، لتتمّ ارتباطها بالإنسان الذي أرادت، عليها أن تتنازل عن بعضٍ من مفاهيمها، وكان ما كان، وعُقد القران الشرعي، وتزوجا..

بعد مضي فترةٍ على زواجهما، طرحت على زوجها وحبيبها، أنها ترغب بالتنازل عن المهر، فقد صار من حقها التصرف بهذا الموضوع، إلا أنه رفض، انطلاقاً من أن زواجهما قائمٌ على الحب والاحترام والتفاهم، وأنه (لا سمح الله) إن وصلا إلى مرحلة الانفصال، فلن تكون للمهر أية قيمة بعد أن تتهدم الحياة الزوجية، ويخسر كلٌ منهما الآخر، وبأنها عنده أغلى من الدنيا وما فيها، وقيمتها لا يحددها مهرٌ أو حبرٌ على ورق.

وفعلاً لم تذهب إلى المحكمة، تلبيةً لرغبته.

مضت السنين، وأنجبا أطفالاً كما حلما، وكان كل شيءٍ على ما يرام.

إلى أن بدأت الخلافات تدب بينهما، وشيئاً فشيئاً، وصل بهما المطاف إلى الانفصال.

بدأت الآراء من المحيطين بهما تتوالى، قائلٌ يقول: لا تطلبي الطلاق، دعيه يقدم على هذه الخطوة، كي تأخذي كل مستحقاتك، وآخرٌ يدلي بدلوه: اذهبي واطلبي الطلاق، وتنازلي عن كل مستحقاتك مقابل حريتك.. وآراء وآراء…

هو رفض أن يطلقها، كي لا يدفع قيمة المهر الذي كان يسميه حبراً على ورق….

هي… ذهبت دون علم أحد إلى المكان الذي جمعهما شرعاً ذات يوم، إلى المحكمة، وطلبت الطلاق، وحينما أراد القاضي أن يوضح لها أنها بهذه الخطوة ستخسر كل مستحقاتها.. صرخت صرختها المدوية التي ملأت أرجاء المكان.. ما ثمن عمرٍ ضاع؟ ما ثمن أحلامٍ اغتيلت؟ أنا لم أبع نفسي ذات يومٍ لأشتريها اليوم ببعض النقود.. أنا إنسانةٌ حرة.. وحريتي وشخصيتي لا ثمن لهما.. أنا لست أحد أغراض المنزل تباع وتشترى.. أريد حريتي.. فقط.. لم أبنِ ذاتي وشخصيتي كل تلك السنين لأقايضها بمبلغٍ من المال صغُر أم كبُر..

ترددت في أرجاء المحكمة كلماتها.. أنا إنسانةٌ ذات كيان.. لا المهر ولا نقود العالم كله تثمّن إنسانيتي..

العدد 1105 - 01/5/2024